بروفيسور صلاح محمد إبراهيم _يكتب _ تجارب العالم مع حكومات ما بعد الحرب

ظل السودان منذ الاستقلال بعيش في دوامة تداول السلطة بين المدنيين والعسكريين ، لم تتاح فيها الفرصة للمدنيين الحكم لفترات مقدرة واستأثر العسكريين بمعظم فترات الحكم ، بالمعايير الليبرالية ومقياس درجة الحرية عانى الفرد السوداني من غياب الحريات بدرجة نسبية مع توفر قدر من الأمن والتنمية والمشروعات الاقتصادية الاستراتيجية خلال فترات الحكم العسكري وحظي بدعم من دول عربية وغربية لسنوات ، وفي فترات الحكم المدني استمتع الفرد بالحرية بدرجة فوضوية مع انعدام التنمية والأمن، وهناك قناعة وحديث بين السياسيين والمدنيين السودانيين حول عدم كفاءة العسكريين وقدرتهم على الادارة والحكم.
تحتاج الدول للعسكريين لترتيب الأوضاع واستعادة توازن الدولة بعد الحروب، وهذا ما فعلته بريطانيا بعد هزيمة الدولة المهدية على يد الجنرال كتشنر الذي أصبح أول حاكم للسودان، ثم خلفه الجنرال فرانسيس ريجنالد ونجت .
في العصر الحديث يدرس القادة العسكريين في كلياتهم الحربية كل فنون الحرب والسياسة والتاريخ وغيرها من العلوم وهم مؤهلين لتولي القيادة السياسية والعسكرية وأحياناً بمجرد الخبرة والممارسة العسكرية مثل ماوتسي تونج الذي قاد التحديث في الصين الجديدة ، كما وصل الجنرال داويت أيزنهاور إلى رئاسة الولايات المتحدة ( 1953-1961 ) بعد نجاحه في قيادة جيوش الحلفاء وهزيمة الدولة النازية ،وكذلك وصل الجنرال شارل ديجول إلى رئاسة فرنسا ( 1959-1969 ) ، وونستون تشرشل وهو عسكري تولى رئاسة وزراء المملكة المتحدة مرتين خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها ، والجنرال جوزيف بروز تيتو في يوغسلافيا ، والجنرال يعقوب جاون الذي أنهي انفصال بيافرا وأعاد ترتيب البلاد بعد الحرب الأهلية .
الدول بعد الحروب تحتاج لبسط الأمن والطمانينة واشاعىة الاستقرار وإعادة الاعمار، وخير من يقوم بتلك المهمة هم العسكريين، وهم أفضل من المدنيين لأنهم بحكم تعليمهم وتربيتهم يعرفون كيفية إدارة الدولة بشكل مرتب ومنظم وعلى درجة عالية من الدقة والانضباط بعيداً عن حسابات المصالح الحزبية الضيقة ـ وعن دقة العسكريين في النظام دائماً ما أردد للبعض تجربتي مع أحد الملحقين العسكريين في دولة شقيقة كنت قد رافقته في سيارة الملحقية بغرض زيارة صديق مشترك بأحد المستشفيات ، ولما عدنا إلى السيارة قام بلفت نظر السائق بشدة ( نظامي) ، وبعد وصولنا انتقدته على قسوته على السائق دون سبب ، فقال لي لا هناك سبب هذا السائق غير منضبط فهو لم يعدل اتجاه السيارة نحو طريق العودة لأنه كان يعرف خط السير قبل تحركنا.
السودان لم يعرف تنمية ومشاريع استراتيجية خلال تاريخه الحديث إلا في فترات الحكم العسكري وهذه حقيقة دون مكابرة و التي لولا تدخل السياسيين لتحقق خلالها مزيداً من المشروعات ، ربما كانت فترات الحكم العسكري في السودان تخللتها الاخفاقات السياسية ، ذلك لأن إدارة السياسة لم تكن من أهداف العسكريين ، فالانقلابات العسكرية التي حدثت كانت نتاجاً لفشل السياسيين في إدارة الدولة ، الم يصفهم كبير مثقفي السودان منصور خالد بإدمان الفشل في إدارة الدولة .
في اعتقادي أن منصور خالد لم يختلف مع نميري لأنه عسكري ، ولكن بسبب مغازلته للمدنيين بمختلف الوانهم من الصادق المهدي إلى الترابي ، والغريبة أن الكثيرين من الذين يعتبرون في عداد تلاميذ منصور خالد في الخارجية السودانية يروجون الأن للحكم المدني والعودة إليه بعد الحرب والكثيرين منهم يعيشون في الدول الغربية على الرغم من أن أول رئيس للولايات المتحدة الأميركية بعد الاستقلال والحرب مع الإنجليز هو الجنرال جورج واشنطن ثم جاء إبراهام لينكولن وروزفلت وهما من العسكريين وهناك 33 رئيس أميركي من خلفية عسكرية ، صحيح وصلو إلى السلطة عبر الانتحابات، ولكن المشكلة في السودان أن المدنيين لم يحسنوا إدارة الشان السياسي حتى يصلوا به إلى بر الأمان الانتخابي قبل أن يأتي التدخل العسكري .
نجحت التجربة الديمقراطية بمشاكلها في بلد مثل الهند ، ولكن التجربة الهندية تختلف عن التجربة السودانية على الرقم من الإرث الاستعماري المشترك ، نجحت التجربة الهندية لأنها نهضت على التفاف معظم الشعب الهندي حول المهاتما غاندي الذي وحد أغلبية الشعب حول قيادته ، واستمر هذا الالتفاف مع تلميذه جواهرلال نهرو الذي اصبح رئيساً لحزب المؤتمر والوزراء ، ولم تكن هناك معارضة حزبية أو انقسامات سياسية هددت التجربة الهندية على الرغم من المشكلات الاقتصادية والفقر والمشكلات العرقية والانفصالية التي تكسرت أمام تماسك الشعب الهندي وراء غاندي وتلميذه وأسرة نهرو.
السودان لم يشهد وحدة سياسية بين مكوناته الوطنية منذ تكوين الاحزاب ، فالاتقسام ظهر منذ قيام الجمعيات الأدبية في العشرينيات وتحولها إلى نشاط سياسي تحت مظلات طائفية زادت من التشرذم والاختلافات التي استمرت إلى يومنا هذا والذي أورث البلاد الفشل والحروب الداخلية، ولم تكن الممارسات السياسية الحزبية تحقق تطلعات الشعب الذي خرج في كتوبر 1964 يؤيد ويبارك انقلاب الفريق إبراهيم عبود، ثم يعود الشعب ويقول بعد تجربة أكتوبر وتجربة الحكم المدني الفاشلة في شعار رددته الجماهير( ضيعناك وضعنا معاك يا عبود) .
السودان لم يشهد في حياته منذ الاستقلال حالة من الفوضى السياسية مثل التي حدثت بعد ديسمبر 2018، عشرات الاحزاب استيقظت من ثباتها بعد ثلاثين عاماً من الانفسامات والمعارضة الخجولة ومشاركة بعض قادتها في فترة حكم الإسلاميين ، وظهور قبادات شابة لم تكن تمتلك الخبرة أو الممارسة السياسية أو الالمام الكافي بشئون الحكم وإدارة الدولة، قفزو إلى واجهة السياسة والحكم ووقعوا فريسة للتدخلات الخارجية التي أغرتهم بمزايا حكم مدني لم تكن الظروف والشروط الموضوعية متوفرة له ، وتم دفعهم للدخول في مواجهة مع المؤسسة العسكرية التي هي القوة الوحيدة المتماسكة في الدولة بحجة أن هذه المؤسسة من بقايا أو افرازات النظام السابق، ولم يدركوا مخاطر الانسياق وراء مثل هذا العداء، وهو سلوك سبق أن تسببت في وقوع البلاد تحت استباحة أجهزة الاستخبارات العالمية لها بعد حل جهاز أمن الدولة بعد انتفاضة 1985، والذي كان يعتبر أحد أقوى أجهزة الأمن في القارة الأفريقية ، وكل ذلك تم بفعل بعض الأحزاب الأيدولوجية الصغيرة والتدخلات الخارجية وأنجر ورائها الحزبين الكبيرين .
من واقع الشارع الأن خلال هذه الحرب الشعب كله ملتف حول المؤسسة العسكرية ولا يوجد بواكي على الحكم المدني الذي تلهث ورائه القوى المدنية في العواصم الخارجية ، لذلك المرحلة تحتاج لرئيس وزراء مستقل له خلفية عسكرية في المقام الأول حتى يتمكن من إعادة ترتيب أوضاع البلاد بعد هذه الحرب المدمرة ، يعاونه فريق من وزراء مدنين تكنوقراط مع احتفاظ العسكريين بالوزارات ذات الطبيعة الأمنية .