وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
ماذا لو بدأ المسرح القومي أعماله بمسرحية "حصان البياحة" ؟ هذا السؤال ليس مجرد اختيار عرض افتتاحي، بل اختبار لقدرة السودان على مواجهة ذاته بعد الحرب، وإعادة قراءة تاريخه وهويته، وإعادة اللحمة الوطنية التي مزقتها النزاعات والعنف الممنهج.
إعادة تأهيل المسرح القومي بأمدرمان، محاولة لإعادة إدخال الخيال والذاكرة والوجدان الجماعي إلى قلب الدولة والمجتمع، وإحياء دور المسرح كمنصة نقدية وفضاء لإعادة تأسيس القيم الوطنية والاجتماعية.
مسرحية “حصان البياحة” وثيقة فنية توثّق حياة مجتمع سوداني خلال فترة مملكة الفونج، وتستعيد لحظات تاريخية أساسية شكلت ملامح الهوية الوطنية السودانية. عبر اللوحات المسرحية، يستحضر العرض السلطة السياسية، التشريع والدين، والممارسات الاجتماعية، والنظرة إلى المرأة، بطريقة نقدية تكشف عن الصراعات الداخلية بين القوة والعدالة، وتطرح أسئلة جوهرية حول السلطة والمجتمع.
فالمسرح في السياق السوداني، لم يكن يومًا مجرد منصة فنية، بل ظل فضاء واسعا للإبداع الفني تتصارع فيه أسئلة السلطة، والهوية، والذاكرة الجماعية. ومن هنا، فإن السؤال حول افتتاح المسرح القومي بمسرحية “حصان البياحة” يتجاوز الذائقة الفنية، ليغدو سؤالًا سياسيًا بامتياز: أي سردية وطنية نريد أن نبدأ بها مرحلة ما بعد الحرب؟
د. يوسف عيدابي ، مؤلف المسرحية، يمثل الجيل المؤسس لحركة المسرح السوداني الحديث، وسعى من خلال أعماله لتقديم مسرح يمزج بين الثقافة الأفريقية والعربية، ويحوّل التراث إلى أداة نقدية وفنية للتأمل في الحاضر والمستقبل. أعماله لم تقدم حلولاً جاهزة، لكنها وضعت المشاهد أمام أسئلة وجودية وسياسية، موفرة مساحة للنقد الذاتي والمساءلة الوطنية.
زيارة وكيل وزارة الثقافة والإعلام والسياحة، د. جراهام عبد القادر بالأمس إلى مشروع إعادة تأهيل المسرح القومي، وإشادته بدور المسرح في مواجهة خطاب الكراهية، تعكس إدراكًا لأهمية الثقافة في ترميم المجتمع. غير أن هذا الإدراك يظل منقوصًا ما لم يُطرح السؤال الأعمق: هل تعود الدولة عبر المسرح بوصفها سلطة أم بوصفها مشروعًا سياسيًا و أخلاقيًا قادرًا على الاعتراف بإخفاقاته؟
فالدولة التي تعيد فتح المسرح دون أن تسمح له بطرح الأسئلة المؤلمة، إنما تستعيد الواجهة لا المضمون. أما الدولة التي تقبل بأن يكون المسرح مساحة نقد ومساءلة وجرس تنبيه، فهي وحدها التي تملك فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة مع مجتمع أنهكته الخيبات وفت في عضضه الخزلان .
افتتاح المسرح القومي بهذه المسرحية ليس حدثًا ثقافيًا محايدًا، بل إعلان عن استعداد المجتمع والدولة لمواجهة ذاتها، والتعريف بالحرب بأنها وجودية لاستعادة الوعي، وكشف شبكة المصالح الاقتصادية والسياسية الداخلية والعابرة للحدود التي أسست لها، وأدوات تفكيك الدولة والمجتمع.
المسرحية تؤسس للأسئلة الصعبة لا للترفيه تعود المسرحية بنا إلى حقبة مملكة الفونج، وهي لحظة مفصلية في تشكل الذات السودانية، حيث كانت السلطة قيد التكوين، والهوية في طور التفاوض، والتنوع الثقافي والديني جزءًا من الحياة اليومية . غير أن قوة النص لا تكمن في استدعاء الماضي، بل في كشفه بوصفه زمنًا متوترًا، مليئًا بالصراعات غير المحسومة.
هذا التوتر هو ما يمنح المسرحية ضرورتها اليوم. فالسودان المعاصر يعيش أزمة مشابهة، لكن بأدوات أكثر عنفًا: تعدد مراكز القوة، غياب مرجعية وطنية جامعة، وانهيار الفضاء السياسي الذي كان يُدار فيه الخلاف بالكلمة والحكاية والمنابر الوطنية لا بالسلاح والعمالة للأجنبي.
في “حصان البياحة”، كان الخلاف يُدار داخل بنية اجتماعية، رغم هشاشتها، عبر اللغة والطقس والتأويل الديني. أما في واقع الحرب الراهنة، فقد انهارت هذه البنية، وملأت مليشيا الدعم السريع الفراغ، في هذا السياق لا تمثل المليشيا مجرد طرف عسكري تمرد، بل نتيجة سياسية لانهيار طويل في بنية الدولة، وعجزها عن إدارة التنوع، وحماية المجتمع.
الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في حق المرأة السودانية تكشف الوجه الأكثر قسوة لهذا الانهيار. فالعنف الجنسي الممنهج، والاغتصاب، والاستعباد، والتشريد، ليست مجرد جرائم حرب، بل أدوات سياسية لكسر المجتمعات من الداخل. ففي البنية الاجتماعية السودانية، تمثل المرأة محور الأسرة وحارسة الذاكرة والقيم، واستهدافها هو استهداف مباشر للنسيج الاجتماعي والسياسي والأخلاقي.
وهنا تتقاطع “حصان البياحة” مع الحاضر بصورة مؤلمة. فالصراع حول مكانة المرأة، الذي عكسته المسرحية باعتباره جزءًا من التكوين الاجتماعي، يتحول في زمن الحرب إلى ممارسة وحشية، بعد أن جرى تجريد المرأة من إنسانيتها، واستخدام جسدها كسلاح لإذلال المجتمع.
العودة إلى المسرح، تعتبر رافعة لإعادة اللحمة الوطنية. فهو يتيح للمجتمع فرصة استعادة الخيال النقدي، ويمنح الفرد مكانًا للمراجعة، وإعادة التفكير في الآخر، وفي الذات، وفي التضامن الجماعي، بعيدًا عن خطاب الكراهية و الصراعات الصفرية. المسرح لا يكتفي بالعروض، بل يشارك في ترميم النسيج الاجتماعي والسياسي والنفسي الذي مزقته الحرب.
“حصان البياحة” بحسب #وجه_الحقيقة تصبح آلية تحليل سياسي وثقافي، تربط الماضي بالحاضر، وتضع الأسئلة الصحيحة أمام من يقودون الدولة والمجتمع ، كيف نعيد الدولة إلى مكانها الطبيعي كحامية للحقوق؟ كيف نمنع تكرار الحرب؟ كيف نستعيد الإنسان محور القرار؟ المسرحية تقول إن الأزمة ليست في الأشخاص فقط ، بل في البنية الاجتماعية والسياسية التي تسمح بتكرار الأخطاء وإعادة إنتاج العنف، وتجعل المجتمع هدفًا للإذلال لا قائدا للنهضة.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 30 ديسمبر 2025م Shglawi55@gmail.com
