بروفيسور صلاح محمد إبراهيم_يكتب_ السودان الوجه الاَخر للحرب في الأدب العالمي

منظمات العمل الإنساني الأممية يرتفع صوتها من أجل جمع التبرعات من المانحين خلال حرب السودان بحجة مواجهة المجاعة مع صدور بيانات متضاربة حول حقيقتها وأرقامها ، والمال لا يأتي من المانحين، وإذا ما جاء ينفق معظمه على الرواتب وتنقلات الموظفين الأمميين .
الوجه الاَخر للحروب يظل خافياً مع المعاناة والألم والجروح العميقة في النفوس ، وهذه منسية في عمل المنظمات ولكن روائع الأدب العالمي تظل ملاذاً للمواساة والدروس والعبر.
من افرازات الحروب أنها تدمي القلوب وتدمع العيون وتسلب منا أعز رفاق الدرب والأقربين ، وتفجر المشاعر حزناً والماً والشعور بنهاية الوجود والفناء لقلة الحيلة أمام عدم القدرة على تغير الواقع ، وهكذا كانت نهاية رائعة الروائي الأميركي العالمي أرنست هيمنجواي ( وداعاً للسلاح Farewell to Arms ) التي كتبها عام 1929عن الحرب العالمية الأولى بين 1914 إلى 1918، والتي شارك فيها بالعمل متطوعاً في الحملة الايطالية، تغلبت المشاعر الانسانية والحزن بالفقد الجلل على بطل الرواية بعد رحيل رفيقته التي غيبها الموت خلال الحرب، غادر بعدها مسرح الحرب وسط هدير المدافع .
الرواية تجسد الأحزان والألم والفجيعة التي يولدها عنف الحروب التي يفقد فيها الناس الأحباب والأبناء والأهل والأصدقاء وتخلف الدمار والخراب ، خاصة عندما يكتشف صناع القرار أنهم كانوا على درجة من البلاهة وقلة العقل والمنطق والأنانية، وعدم القدرة على تحمل أو تقبل الاَخر الذي يعيش بيننا أو بجوارنا. الحروب الحديثة سواء كانت نزاعات داخلية كما في الكثير من الدول مثل السودان أو تلك التي بين الدول ومهما كانت حدة العنف وقسوة نتائجها، فهى في محصلتها النهائية خسران وتخلف مأسي إنسانية تمس المشاعر والأحاسيس والعواطف ، والحقيقة أن هيمنجواي في روايته ربما لم يكن مهتماُ بالبعد العسكري إلا في السياق العام للرواية التي تم إنتاجها في فيلم سينمائي يعتبر من روائع ما قدمته استديوهات السينما الأميركية في هوليود ، وربما هي تجربة الكاتب الشخصية في الحرب، غير أن البعد الإنساني المرتبط بالمشاعر والعواطف هو الذي قفز بالرواية إلى مقدمة افضل رواية في وقتها واقبال الجمهور عليها أمام دور العرض السينمائي، حتى عندما عرضت في السودان في الستينيات من القرن الماضي.
وعن هذا البعد الإنساني في حرب السودان نتحدث بعيداً عن الجدل الكثيف حول مختلف أبعادها العسكرية والسياسية التي سبق أن حددنا موقفنا منها حول من تسبب فيها وتفشي ثقافة الأنانية والاقصاء والرغبة في الاستحواذ على السلطة.
نعم الحرب تكلفتها عالية خاصة في حرب السودان غير المسبوقة ، فهي المرة الأولى التي يشعر فيها الفرد السوداني أن الحرب قد مسته في عقر داره ومملكته الصغيرة التي ظلت آمنة على كثرة الحروب والنزاعات الداخلية في السودان والتي اندلعت في العديد من أركانه ،ولكنها ظلت بعيدة عن انتهاك الممتلكات الخاصة، أو التعدي على الحرمات ، وربما كان الاستثناء هو فترة دخول جيش المهدي واجتياحه للخرطوم التي ربما كانت أكثر قسوة من ما نراه الاَن كما وثقه الكاتب والدبلوماسي التركي (عمر أوتور) الذي كان مديراً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالسودان في كتابه عظام على النيل( Bones on the Nile ) الذي كان محوره الإسبوعين الأوائل من اجتياح جيوش المهدي للخرطوم ( قام الكاتب بإهداء مؤلفه إلى الإمام الصادق المهدي عن طريق أبوبكر وزيري الذي كان يعمل في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مع أتور.
جنون الحرب قد يصل إلى ما حدث في هيروشيما وناجازاكي في اليابان عام 1945 عندما أمر الرئيس الأميركي الثالث والثلاثون هاري ترمان بضرب المدينتين بالقنابل الذرية وخلف ذلك كارثة إنسانية شاملة لم يشهد العالم لها مثيلاً، وهو في أحدث صوره ما حدث في غزة خلال الشهور الماضية من قتل للمدنيين ودمار وخراب للأعيان المدنية ، والحديث عن الأعيان المدنية هو لب القضية السودانية والحرب المشتعلىة الاَن ، إذ لم يسبق لتمرد على الدولة أن قام فريق بدخول منازل أو حتى الأحياء المدنية للمواطنين أو التعدي على حرماتهم ، والجديد في حرب السودان الدائرة الاَن في بعدها الكارثي حالة النزوح الداخلي الكثيف والهجرة خارج الحدود لملايين السكان إلى مناطق جديدة ودفع ثمنه الكثيرين من الأحباب ورفقاء الدرب والأبناء ومقتل أسر باكملها بجانب المضاعفات النفسية بسبب البعد عن الحياة الراتبة والغربة وتوقف كل موارد الدخل بل وربما جفاف هذه الموارد لطول أمد الصراع .
التكلفة النفسية للحرب فاقمت من معاناة الناس وهي أكبر بكثير من فقدان الممتلكات ، وهي زادت عن التكلفة الانسانية المرتبط بشح الغذاء ، على الرغم من روح التكافل الاجتماعي التي هي من خصائص المجتمع السوداني التي خففت الكثير من الاَلام وقسوة الحرب على الكثيرين عند الأهل والأقرباء ، إلا أن الذين فقدوا أحبابهم وأهلهم سوف تظل قسوة الحرب ماثلة في ذاكرتهم عصية على النسيان .
على الرغم من أن رسالة هيمنجواي في روايته هي أن لا شيىء في هذه الدنيا تعادل نعمة السلام لذلك كانت خاتمة الرواية هي مغادرة البطل لساحة الحرب رغبة في البحث عن السلام ، إلا أن الرسالة لم تصل إلى صانع القرار الأميركي ، فقد خاضت أميركا الكثير من الحروب بعد عام 1919، في أوروبا واليابان وكوريا والشرق الأوسط ، وفي كثير من الأحيان لم تكن حروب مبررة مثل حرب العراق ويبدو أن الألم والإحساس بالفجيعة الشخصية في الحروب تشغل اهتمام الروائيين والكتاب وليس السياسيين المشغولين بالسلطة ، ويدفعون بالعسكريين إلى المعارك بسبب أخطائهم السياسية ثم يحملوننهم نتيجة الكوارث التي تتسبب فيها الحرب من مأسي انسانية يكون ضحيتها المدنيين .
في ستينيات القرن التاسع عشر 1867 كتب الروائي الروسي ليو تولستوي رواية (الحرب والسلام ) عن حملة نابليون على موسكو عام 1812 والتي تعبر عن قوة الحرب التي تولد الفظائع التي تخالف روح العصر والطبيعة الإنسانية التي تجعل البشر أقرب إلى الحيوانات وهو ما شهدناه في حرب السودان المتوحشة التي طالت الناس الاَمنين في بيوتهم وأمولهم وحرماتهم . البشر لا يستفيدون من دروس التاريخ والسياسيون لا يعتبرون من بعض حقائق التراث الأدبي العالمي فكل ما كتبه تولستوي وهيمنجواي عن الحرب وقعقعة السلاح ومرارة فقدان الأرواح والتي اختلطت بالمشاعر الإنسانية كان حقيقياً وملامساً للواقع في ظل صراعات غذتها الطموعات المريضة غير المبررة والتطلعات غير المشروعة البعيدة عن الواقع ، كان تعبيراً عن الواقع الذي يغطي الوجه الاَخر للحروب في بعدها الانساني والوجداني ، فالروايتين فيهما الكثير من الوقائع والحقائق التاريخية لتلك الحقب ، وهما تختلفان عن ما كتبه الأميركي كورنيليس ريان عن نهاية الحرب العالمية الثانية في كتابه الممتع ( المعركة الأخيرة The Last Battle ) الذي وثق للصراع بين الجنرال داويت إيزنهاور قائد حيوش الحلفاء ( أصبح رئيساً للولايات المتحدة بعد الحرب ) ونائبه الإنجليزي الفيلد مارشا بيرنارد مونتجمري ثعلب الصحراء وتسبب في تأخر الحلفاء الغربيين في الاحتلال الكامل لبرلين عاصمة الرايخ الألماني بعد أن سبقهم الجنرال الروسي جوكوف واحتل معظمها ، كورنيليس ريان لم يتناول الجانب المرتبط بالمشاعر والحب والسلام وأثر الحرب على البشر والمواطنن العادين وأحزانهم ، كان اهتمامه بحركة القوات أكثر من عواطف البشر والسكان .
الحروب الداخلية التي استشرت في السودان منذ الاستقلال كان سببها التركة الاستعمارية الانجليزية ( Colonial Legacy) منذ حملة كتشنر التي توسعت وتمددت في الفتوحات ومطاردة الدراويش وحروب الإنجليز ضد القبائل الجنوبية وهو توسع كان طابعه جنون العظمة الاستعمارية التي كان همها الاستحواذ والسيطرة على أكبر مساحة من الأراضي في فترة السباق الاستعماري في القارة الأفريقية ( Scramble for Africa ) دون الأخذ في الإعتبار حقوق السكان.
السلام الدائم في السودان بعد الحرب الحالية يقتضي التفكير خارج الصندوق لتجنب حروب المستقبل حمانا الله منها.