مصعب الريح رشاشقرآءة ما بين سطور الحرب ,,, الغريق قدام ( 1 – 2 )

Rushash72@gmail.com

ما بين عامي ( 1837 / 1839 ) كتب المؤرخ التشيكي اغناتيوس بالمة , الذي زار السودان في تلك الفترة , مستغربا من السودانيين الذين لا يعيرون انتباهاً مناسباً للأحداث التي تقع في بلادهم و لايهتمون بحياتهم السابقة و لا يسجلون تاريخ أسلافهم .
الآن و بعد مائتي عام على قول بالمة المؤلم ذاك يبدو أننا لازنا نمارس تلك اللا مبالاة بشأن ما يجري في بلادنا و تاريخها . فمعرفة الأجيال الشابة الآن و حتى وعينا نحن و آبائنا بالأحداث , الحروب , الانقلابات , الثورات و كل الاضطربات التي وسمت تاريخنا الوطني ما بعد الاستقلال , لا تزال معرفة سطحية و وعياً ضعيفاً لا تتجاوز أدواته شهادة العيان و حكايات الشهود و ( الونسات ) و ( كلام الجرايد ) .
لم يدون تاريخنا الوطني الحديث بشكل مستقل و احترافي و يدرس من قبل مختصين حتى يصبح مدخلاً لمراجعة مسيرتنا الوطنية و معالجة أخطاء الماضي و التعلم منها و من ثم وضع قدم على جادة التقدم .
لقد ظلننا ننظر إلى الأحداث الدموية و الاضطرابات الداخلية بوصفها أحداث عابرة و شدة ستزول مع الوقت . و سادت هذه النظرة المخلة للأمور بسبب التوظيف السياسي للأحداث و لأن الساسة و المتصارعين على السلطة ظلوا هم من يلعب دور الرواة و المحللين و مستخلصي النتائج . و لذلك ظللنا نلف و ندور في ذات الدائرة الجهنمية لعدم وعينا الكافي بالظروف الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و كل الشروط الموضوعية التي تمثل المنصات الأساسية لحدوث ما ظل يحدث و يتكرر حدوثه .
و لذلك فإن التناول السطحي الذي نتعامل به الآن مع الحرب الجارية بوصفها حدثا عارضا سيزول قريباً و تعود الحياة إلى ما كانت عليه لن يجدي نفعاً أو يقدم حلولاُ للأزمة الراهنة و الأزمات الكبرى القادمة . لأن التعامل مع يوميات الحرب بثقافة ( هلال مريخ ) يضلنا عن التناول الموضوعي للأحداث و يعمي أعيننا عن تصور ملامح الحياة الإجتماعية للسودانيين و مستقبل البلاد ما بعد الحرب .
فاليوميات مثل سقوط مدينة أو تحرير أخرى و سقوط قذيقة في منطقة ما أو الاشتباك في جسر ما , كل هذه الأحداث إنما هي عنوان لحقيقة واحدة فقط . حقيقة واحدة مؤلمة , هي أن الحرب لا زالت مستمرة إلى أجل غير مسمى . و ذلك يعني الفشل في الإنتصار أو التوصل إلى سلام أو الوصول إلى حل يفتح الطريق أمام تطبيع الحياة و ما يتطلبه معاش الناس من خدمات و تنمية و أمن و نحو ذلك من الأمور .
إن الحجم الحقيقي للكارثة التي تجري أحداثها الآن لا يمكن قياسه أو إدراكه بالمعايير العسكرية أو نتائج العمليات الحربية . و إنما يصلح قياسه بتطورات الوضع الإنساني و الاجتماعي و الكيمياء السوسيولجية و الديموغرافية المعقدة التي تتفاعل باستمرار و بكل إلحاح لتفاجئنا في الحلقة الأخيرة بواقع لا نعي مقدار فداحته و لا نتصور جحيمه تحت ظل الغيبوبة التي نغطي فيها الآن .
منذ الشهور الأولى للحرب و قبل سقوط ولاية الجزيرة بيد الدعم السريع صرح وزير الصناعة بأن تسعين بالمائة من المصانع قد دمرت تدميراً شاملاً . فكلمة ( شاملاً ) تعني عملياً و بكل وضوح بأن المئات من أصحاب المصانع و مئات الآلاف من العاملين بقطاع التصنيع انقطع مصدر كسب عيشهم من هذه الصنعة بشكل ( شامل ) أيضاً .
أواخر مايو الماضي زرت السوق الشعبي بأم درمان و لم تقع عيني فيه على شيء تساوي قيمته ألف جنيه فقط . كل أبواب المحلات التجارية و العمارات و بوابات المصانع مفتوحة تماماً و لا يوجد بداخلها غير الركام و الرماد و يتصاعد منها الدخان الكئيب . و بالطبع هذا حال كل الأسواق الكبيرة بولاية الخرطوم .
هذا الواقع العجيب سيفرض على نسبة كبيرة ممن ظل حياً من سكان ولاية الخرطوم ( النازحين ) التردد في اتخاذ قرار العودة إلى العاصمة مرة أخرى لانقطاع أسباب عيشهم هناك . و هذا يعني أن الملايين من الكادحين من أصحاب رزق اليوم باليوم الذين كانوا يخرجون يوميا من بعد صلاة الصبح و يعودون إلى منازلهم بعد صلاة العشاء , سيعيدون النظر في حياتهم التي لم يجدوا من قبل فراغاُ للنظر فيها طوال سنوات . سيكتشفون حجم الكابوس الذي كانوا يعايشونه على هامش الحياة في الخرطوم و وهم الحلم بتحسن ظروف عيشهم الذي لم يتحقق رغم مرور عدة عقود . سيدركون أن الحياة في ولاياتهم الأم التي عادوا إليها أكرم من جحيم الخرطوم بألف مرة .
إن ذلك التحول الديموغرافي الكبير سيؤثر على المركز الاقتصادي و الاجتماعي للخرطوم فيما بعد بشكل كبير . سيكون سوق العقارات و الأراضي أشد المتأثرين بالوضع الجديد . ستهبط قيمة العقارات لكثرة العرض و تراجع الطلب . و ستنفجر الفقاعة الكبيرة التي نفخها السماسرة و تجار العقارات أكثر من حجمها الطبيعي . سيفقد عشرات الآلاف من الناس أكثر من نصف ثرواتهم لأنهم خزنوا أموالهم طوال السنوات السابقة في الأراضي و العقارات لأنها كانت الاستثمار الأكثر أماناً . و تبعاً لذلك ستتأثر المصارف و بيوتات التمويل التي كانت تقدم التمويل مقابل الرهن العقاري .
و الواقع أن قطاع البنوك و التأمين سيصاب بهزات مالية هي الأعنف . بل سيفلس بعض البنوك و شركات التأمين و ينهار لأنه علاوة على أزمة الرهن العقاري فإن معظم أموال و أصول المصارف قد تعرضت للسطو و النهب . و كذلك فإن جزء كبير جداُ من الأموال التي دفعتها المصارف لطالبي التمويل قبل الحرب ستفقد قيمتها بعد التدهور المريع في سعر صرف الجنيه . هذا إن وجدت طريقاً لاسترداد التماويل فغالب الاستثمارات و البضائع التي استخدمت فيها التماويل إما سرقت أو حرقت أو أتلفت أثناء الحرب و بذلك صار أصحابها في وضع القوة القاهرة القانوني الذي قد يعفيهم من السداد .
معظم من يمتلكون أكثر من عشرة ألف دولار من المتأثرين المباشرين بالحرب لجأوا إلى خارج البلاد . أغلبهم وفق أوضاعه في المهجر , أقاموا مشروعات و استثمارات في ظل توفر المناخ المشجع للاستثمار هناك . و هؤلاء أيضاُ سيترددون ألف مرة في العودة إلى الداخل حتى إذا توقفت الحرب و حل السلام . و نواصل إن شاء الله