في خضم العواصف التي تضرب السودان من كل اتجاه، وبينما تتعدد الجبهات وتتداخل المصالح، وتتقاطع الارادات. تثبت الدولة السودانية ــ رغم النزيف والأزمات المتلاحقة. تبذل سعيها الجاد لتطويق ومحاصرة الأزمات واحتوائها، وتمضي نحو البناء وإعمار ما دمرته الحرب ــ و أنها ما تزال تمسك بعصب الإرادة الوطنية القادرة والفاعلة. فالهجوم الانتقائي والمكثف اليوم على المنشآت الحيوية، لم يعد عسكريًا فحسب، بل امتد إلى حرب إلكترونية سيبرانية مفتوحة تستهدف بنية الدولة ومؤسساتها ومصداقيتها، في محاولة لاختراقها وتفكيك ما تبقّى من جسدها الحيّ وقدتها على العودة.
فمنذ أسابيع تتكاثف المؤشرات على أن السودان يواجه اختراقًا إلكترونيًا ممنهجًا، تترافق معه حملات تضليل إعلامي وتخريب للبنى الرقمية الحساسة، بما في ذلك شبكات الاتصالات والمصارف والأنظمة الحكومية. هذه الحرب الجديدة تسعى إلى شلّ الدولة من الداخل بعد أن عجزت أدوات الخارج عن كسر صمودها عسكريًا في الميدان.
وفي الميدان نفسه، يشتدّ الحصار والكارثة الإنسانية على مدينة الفاشر وحولها ، والتي تقف صامدة صابرة في وجه محاولات التمرد المتكرّرة للانقضاض عليها. وبرغم القصف المتواصل واستهداف الإمدادات الإنسانية ومطلوبات الحياة ، وقتل المدنيين فإنّ إرادة سكانها والجيش والقوات النظامية تظلّ متماسكة، لتؤكد أن معركة الفاشر لم تعد معركة مدينة محاصرة، بل عنوانًا لصمود وطن بأكمله، لا يمكنه أن يساوم أو تهده معاول المشروع الاجنبي من خلف مليشيا التمرد.
أما حرب المسيرات فقد تحوّلت إلى أداة تدمير ممنهج للبنية التحتية السودانية؛ إذ لم تسلم منها الموانئ والمطارات والسدود في بورتسودان و سنار والدمازين، وصولًا إلى العاصمة المحررة الخرطوم، التي ما تزال تتعرض لمحاولات تعطيل متكرّرة. ومع ذلك، تواصل مؤسسات الدولة المدنية نهوضها التدريجي، فها هي الجامعة الوطنية ومستشفى الراقي تعودان إلى العمل، وطائرة بدر تغادر مطار الخرطوم ب٨٠ راكبا في امان،في رسالة رمزية بأن ارادة الحياة تنتصر رغم الركام، وأن روح الدولة المدنية لم ولن تُهزم، وان عزيمة هذا الشعب عصية على الانكسار رغم الابتلاء الذي أحاط بكل شي.فيد التمر تْخرِّب ويد الدولة للإعمار والنهضة.
في خضم هذا المشهد، برزت كلمات الفريق أول عبد الفتاح البرهان من مطار الخرطوم لتعيد التأكيد على عزم الدولة على المضي قدمًا في تحمل مسؤولياتها، مهما كانت التحديات. لإرساء السلام على الأسس الوطنية كانت رسالته واضحة: لن يُسمح للميليشيا ولا للمرتزقة ولا لمن يقفون خلفهم أن يختطفوا مستقبل البلاد أو يفرضوا وصايتهم على شعبه. فخطاب الدولة هنا يختلف جذريًا عن خطاب قائد التمرد الذي غلب عليه الارتباك واليأس، محتميًا بمسيراته، متذرعًا بدعم خارجي يتآكل مع مرور الأيام كما تآكلت منظومة قحت تقدم صمود وتأسيس.
أما الرباعية الدولية، التي تتهيأ لاجتماع جديد، نهاية هذا الشهر من واشنطون، فتبدو عازمة على المضي في نهج الوصاية لا الإدانة. او مهابة ما يتطلبه المشهد الداخلي من دعم وإسناد حقيقي، فهي لا تزال تتعامل مع التمرد كمكوّن سياسي، لا كقوة مسلحة خارجة على القانون، متجاهلة بذلك كل معايير السيادة ومبادئ العدالة الدولية وحماية المدنيين وحقوق الإنسان والانتهاكات التي تجري على الارض. إلا أن الرسائل التي حملها خطاب البرهان الأخير بالقضاء على التمرد، أغلقت الباب أمام محاولات “التدويل” غير المشروع، وأكدت أن أي حوار أو عملية سياسية لن تُفرض من الخارج، بل ستنبع من الإرادة الوطنية الحرة.
وفي المقابل، تتبدى حالة من الارتباك في صفوف الكيانات التأسيسية التي راهنت على الموجة الخارجية؛ إذ ارتعدت من محددات الدولة الواضحة التي جمعها خطاب عطبرة الصمود، بينما تحاول بعض الأصوات المناوئة قصر الحوار عليها بالأماني والأحلام ، في محاولة لخلط الأوراق واستعادة النفوذ القديم .فيما دعا أركو مناوئ لتوسيع دائرة الحوار لتشمل المؤتمر الوطني ورفضه ضم قحت ، الأمر الذي دعا اليه مستشار رئيس الوزراء مصلح نصار ، ربما لتمايز الصفوف بين من يدعم الدولة ويوالي جيشها ومن يسعى للكرسي غير آبه بمعاناة الوطن.
إنّ السودان اليوم يواجه أزمة مركبة تتجاوز الحرب إلى صراع هوية وسيادة ومصير. لكنه وسط هذا الركام، تبرز ملامح الدولة المسؤولة التي تتحمل قدرها وعبء الدفاع عن الأرض والقرار، وتحاول الحفاظ على الحد الأدنى من وظائفها المدنية، تمهيدًا لاستعادة مؤسساتها بالكامل واستعادة كامل الامرة والسيطرة .
لقد سقطت أوهام كثيرة، وبقيت إرادة الدولة والشعب، وهما يسيران بخطى ثابتة لإسقاط المشروع الأجنبي الذي يستهدف السودان تفكيكًا وتشظيًا. وما بين الحصار والقصف والتضليل، يظلّ الأمل معقودًا على وعي الشعب وصبره، وعلى قدرة الدولة على التحمل و تحويل صمودها إلى مشروع وطني جامع، يؤسس لميلاد جديد يقطع مكامن الوصاية والإملاء ويحرر القرار الوطني، ويعيد للسودان وجهه السيادي المستقل وأمنه واستقراره في ملحمة وطنية داخلية تتشكل لن تسقطها المسيرات … التي تقتل وتدمر لكنها لا تقيم حكما ولا تؤسّس لشرعية.
⸻
٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥م