السفير.د.معاوية التوم يكتب _ حول ارهاصات جمع رئيس وزراء السودان بين رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية: قراءة في التحديات والفرص!؟

مقدمة

يعيش السودان مرحلة دقيقة في تاريخه السياسي الحديث، إذ ما يزال يكابد ليخرج لتوه من حرب مدمرة أطاحت بمؤسسات الدولة وهزّت ثقة المجتمع الاقليمي والدولي فيه، بينما ما تزال التحديات الأمنية، الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية تعصف بالبلاد. وفي خضم البحث عن صيغة لإدارة الفترة الانتقالية، وعلى خلفية ما رشح من توجهات من وحي تأخير تعيين وزير الخارجية كأولوية قصوى ، يبرز مقترح أن يجمع رئيس الوزراء الانتقالي بين قيادة السلطة التنفيذية وإدارة ملف السياسة الخارجية، باعتبار ذلك خطوة لإعادة توحيد القرار السوداني في الداخل والخارج. هذه الورقة تسعي ان تبادر بالغوص في تحليل أبعاد هذا الخيار، من ناحية علمية وأكاديمية ومهنية خبراتية محضة، لتنظر باعتدال بين الفرص التي قد يفتحها، والتحديات والمخاطر التي قد يترتب عليها، لتقدم تقييمًا موضوعيًا لتداعياته على مستقبل الدولة السودانية. وليس بالضرورة ان يتقيد هذا التناول بالمقاربة مع التجارب الإنسانية من حولنا في قطر او كينيا لانعدام أوجه الشبه في المقارنة والتقديرات والحيثيات التي قد يبنى عليها القرار ان أضحى واقعا، لخصوصية الحالة السودانية وتشعباتها.

أولًا: السياق السياسي والدبلوماسي الراهن

تواجه الدولة السودانية بيئة داخلية و إقليمية ودولية معقدة تتسم بما يلي:
• أزمات داخلية خانقة ومركبة تتمثل في الانهيار الاقتصادي والوضع الحياتي المعيشي الضاغط، والهشاشة الأمنية، وافرازات الحرب الممتدة، وتعقيدات الحكم والفجوات المحلية العارضة و المتجددة.
• تراجع حاد في الدور الدبلوماسي للسودان، وتدهور شبكة علاقاته وبنيته المعنية بالقرار الخارجي مقابل تدخلات فوقية للقوى الإقليمية والدولية جراء الأوضاع التي لازمت الفترة الماضية لأكثر من ٧ أعوام في ادارة الملف الخارجي .
• تدخلات خارجية كثيفة من قوى إقليمية في الجوار السوداني وخارجه وقوى دولية ذات نفوذ وحرب إرادات وتنافس كبير على بلادنا ومواردها وقرارها ، تحاول كل منها إعادة تشكيل مستقبل السودان وفق مصالحها مستغلة الأوضاع القائمة.
• حاجة ملحّة لإعادة الإعمار والتأهيل والانفتاح الدولي، وهو ما يتطلب دبلوماسية نشطة وكفاءات عالية لإدارة هذا الملف الحساس. وانسداد أفق الدعم الخارجي الامني في سياق ما تواجه البلاد إلا من قلة خيرة من الأصدقاء.

في مثل هذا السياق، تبدو فكرة تركيز السلطة التنفيذية والدبلوماسية في يد رئيس الوزراء غير المختبرة في واقعنا إلا من تجربة عارضة لأشهر للرئيس نميري ، تبدو الفكرة محاولة لاستعادة ورسم زمام المبادرة داخليًا وخارجيًا قد لا تخلو من تداعيات .

ثانيًا: الفرص التي قد يتيحها الجمع بين المنصبين

1. توحيد القرار السياسي والدبلوماسي

من أبرز المكاسب المتوقعة هو خلق انسجام بين أولويات الداخل ومصالح الخارج، فغياب التناغم بين أجهزة الدولة أدى سابقًا إلى مواقف خارجية متناقضة أضعفت الموقف السوداني في ملفات مثل النزاع الحدودي، والعقوبات، والديون. وانشغالات عالمية كبرى.

2. سرعة الاستجابة للأزمات

الجمع بين المنصبين قد يعزز القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة في مواجهة القضايا الإقليمية والدولية الطارئة، خاصة وأن السودان يعيش على وقع أزمات متلاحقة تتطلب قيادة ديناميكية، لكن الشراكة القائمة حاليا على مستوى القوات المسلحة والمدنيين والحركات المسلحة، في مقابل معارضة نهمة للسلطة جالبة لمنقصات فيما فقدت من سلطان .

3. حشد الدعم الدولي والإقليمي

وجود رئيس الوزراء على رأس الدبلوماسية وثقله الاممي الذي يرتكز اليه قد يمنحه قدرة أكبر على التفاوض مباشرة مع قادة العالم، وتأمين مساعدات مالية وسياسية عاجلة لإعادة الإعمار، وجذب الاستثمارات وإبرام الاتفاقيات ، ولكن التفويض الممنوح في الظرف الانتقالي يظل حبيس ظرفه ومحدداته لا على اطلاقه من واقع التشكيل الوزاري الذي خضع لمعادلات.

4. استعادة صورة السودان الدولية

في ظل التدهور الحاد لصورة السودان، قد يُرسل الجمع بين المنصبين إشارة للعالم بأن القيادة السياسية تعتبر السياسة الخارجية أولوية قصوى، وتلتزم بإعادة تموضع السودان كفاعل إقليمي، رغم تعليق عضوية السودان بالاتحاد الأفريقي وتراجع السند العربي الفعال ازاء الحرب المفروضة على البلاد.

✦ ثالثًا: التحديات والمخاطر المرتبطة بالخطوة

1. إرهاق القيادة وتشتت الأولويات

إدارة الدولة في مرحلة ما بعد الحرب مهمة شاقة ومران حذر في واقع مثقل بالهموم والتحديات تتطلب تفرغًا كاملًا لرئيس الوزراء، وإضافة عبء الخارجية قد يؤدي إلى ضعف الأداء في كلا الجانبين، خاصة أن الدبلوماسية تتطلب نشاطًا ميدانيًا على مدار الساعة وسفرًا مستمرًا.في خضم واقع ميداني عسكري ممتد، وقيود قانونية دستورية تحدد ماهية هذه المرحلة ومطلوباتها لجهة التحديات والأولويات وتقاطعات تجلبها الشراكة وظلالها المحيطة .

2. تآكل المؤسسية الدبلوماسية

لاشك ان مسيرة العمل الدبلوماسي بالبلاد لها خلفية راسخة، وزاخرة بالتجارب والأشخاص من أهل الكفاءة والقدرة ، والمنظومة القانونية والإدارية والفكرية والتجربة الإنسانية التي مهما قلل بعضهم من حظها، ومن نجاحاتها إلا انها بخير وتعافي والرموز وافرة من داخلها وممن عركتهم التجربة ما يزالون . لذا قد يُنظر للجمع وكانه استمرار لإضعاف وزارة الخارجية وسلبها دورها التأريخي لأكثر من ٧ عقود، وتهميش للدبلوماسيين المهنيين، ما قد يسبب إحباطًا للكادر الدبلوماسي ويفقد الوزارة ثقتها في حصنها وكادرها و دورها كمؤسسة وطنية مستقلة توجب على القيادة تحصين سياجها وتعظيم رصيدها وكسبها، لا ان يترك للتبخيس والتآكل والتقديرات الفردية المحدودة التي لم تبسط للحوار المتعمق والتقييم والتقويم المحترف والحوار التفاعلي لأهل السبق.

3. قصور في معالجة الملفات الفنية

ملفات مثل النزاعات الحدودية، اتفاقيات التجارة الدولية، والتفاوض مع المؤسسات المالية العالمية والتمثيل متعدد الأطراف، وغيرها من الانشغالات في معالجة الملف الأوربي والأمريكي والصين وروسيا ومستقبل الفترة الانتقالية التي ستبدا ومخلفات الحرب واستحقاقاتها في سياق كتاب السلام والاستقرار ، كلها تحتاج إلى خبرات متخصصة وفريق عمل متفرغ، وهو ما قد لا يتوفر لرئيس الوزراء المنشغل بإدارة الأزمات الداخلية وتحديات الجوار وتقاسم السلطة والمسؤلية وتنسيق الاداء والرقابة مع مجلس السيادة والشركاء الآخرين .

4. إشارات سلبية إلى المجتمع الدولي
لا اظن أن غاية رئيس الوزراء في ضم حقيبة إضافية الي أعبائه طالما هو الممسك بكامل الجهاز التنفيذي . وقد يفسر بعض الفاعلين والشركاء الدوليين هذه الخطوة على أنها علامة على تركيز السلطة في يد شخص واحد، مما يثير مخاوف بشأن الالتزام بالديمقراطية والحكم الرشيد والتحول السلس للسلطة في السياق السوداني المتدابر وتعدد أقطابه وبنيته السياسية المضعضعة والتي تتشكل لتأخذ بما هو متوافر مأزوم ، وما هو آت ستكشف عنه الايام والخلافات الفكرية حول الواقع والمنظور المستقبلي للحكم .

رابعًا: السيناريوهات المحتملة

✔️ سيناريو النجاح

إذا تمتع رئيس الوزراء بالكفاءة الدبلوماسية، وتفويض كامل، وتم دعم قراراته بمؤسسات مساندة قوية، فإن الجمع بين المنصبين قد يؤدي إلى:
• مسعى لاستعادة ثقة المجتمع الدولي.
• تسريع جهود إعادة التأهيل والإعمار.
• مواجهة التدخلات في الجوار والإقليمية بحزم وفعالية.

سيناريو الفشل

في المقابل، فان الجمع في هذا الظرف الاستثنائي والطاريء للبلاد ربما قاد أو أدى إلى تشتت الجهود وتعرض القرار السياسي للتنازع والتنافس البغيض ولازم ذلك فشل في بناء مؤسسات قوية، فقد تكون النتيجة:
• عزلة دبلوماسية جديدة وازدياد هامش عدم الثقة.
• إضعاف الجبهة الداخلية بسبب عدم التركيز على الإصلاح المؤسساتي والسياسي والاقتصادي.
• ترسيخ صورة الدولة كشخصنة للسلطة ومغامرة مفتوحة الاحتمالات بدلًا من بناء مؤسسات وطنية تأخذ بعظات التجارب والتخصص وتحديات الواقع الراهن وتعرجاته التي تستعصي على الحل.

خامسًا: توصيات

1️⃣ ربما جرى اعتماد الجمع كحل مؤقت لا يتجاوز 6 أشهر، حتى يتم التوافق على تعيين وزير خارجية محترف او تسمية من اعلن قبلا لإدارة الملفات الاحترافية والمهنية الفنية من داخلها.

2️⃣ تعيين وزراء دولة بالخارجية او وزير دولة ومستشار دبلوماسي آخر رفيع لمساندة رئيس الوزراء، فيما يتصل بالحركة التقليدية الراتبة والتعاون الدولي الذي الحق بالهيكل وضمان استمرار العمل الإداري اليومي بكفاءة من خلال هيكلها الذى قضى بأن يتصدره وكيل وفق تراتبيتها الهرمية.

3️⃣ إنشاء مجلس للأمن القومي والسياسة الخارجية لتنسيق الجهود بين السيادة ورئاسة الوزراء، الخارجية، والأجهزة الأمنية والعسكرية.

4️⃣ الاستثمار في الكفاءات الدبلوماسية السودانية، وإعادة بناء الثقة بين القيادة السياسية والدبلوماسيين المحترفين.

5️⃣ إشراك القوى السياسية والمجتمعية في رسم السياسات الخارجية لضمان التوافق الوطني وتعزيز الشرعية وحشد السند الشعبي .

✦ خاتمة
هذا جهد فكري شخصي لا ادعي له عصمة ولا يسوقني اليه دافع او ارمي من وراءه لمغنم ، بل ابت مج غي من ورائه الإسهام في شأن وطني جديد على واقعنا، يتوجب على كل اصحاب المصلحة من اهل الشأن من قيادات ورموز الخارجية ووزرائها السابقين وقيادات الاعلام والأكاديميين ومن تسنموا المناصب الامنية . او ممن لهم المام و دلو وصلة وتجربة واختصاص ان يرفدوا مرئياتهم ازاء التوجه ان قدر له ان يخرج ، بما يجعله حصين بالسند الفكري الوطني الجمعي القائم على العلم والتجربة والدربة، لتحقيق أقصى المصلحة والفائدة لأمّتنا وشعبنا في تناول موضوعي يرجح الاوفق والامثل .
ورغم ما قد يبدو عليه الجمع بين رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية من إغراء كحل سريع لمعالجة التحديات الراهنة، إلا أن المخاطر المرتبطة به تجعل من الضروري التعامل معه كخيار مؤقت لا بديل فيه عن بناء مؤسسات قوية وفعالة. فنجاح الفترة الانتقالية في السودان رهين بقدرة القيادة السياسية على الموازنة بين مركزية القرار وضرورة تمكين المؤسسات الوطنية، واستعادة ثقة السودانيين والمجتمع الدولي معًا. وتعزيز المكاسب التي توافرت مهما تعالت الاصوت غير المنصفة من أهل الغرض والتغول ، او اصحاب الرؤى المفخخة دون تبصر، او التقديرات الملونة في واقع لا يحتمل التجارب غير مأمولة العواقب في هكذا واقع يستوجب تغير حياة الناس وتعبيد طريقهم وشأنهم اليومي وتعويض فقدهم وجبر معاناتهم كأولوية حصرية لا غيرها. إذا ما اتفقنا ان السياسة الخارجية هي انعكاس جوهري للسياسة الداخلية ومدى نجاحها واستقامتها.
والله من وراء القصد.