وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
تشهد ولاية النيل الأزرق الواقعة في جنوب شرق السودان على الحدود مع إثيوبيا، بوادر توتر قد تتحول إلى جبهة صراع جديدة ضمن متغيرات القرن الإفريقي. نقل موقع سودان تريبيون عن مسؤول سوداني أن الجيش يتهيأ لصد هجوم محتمل من قبل الدعم السريع وحلفائه، الذين يجرون تدريبات عسكرية في أربع مناطق حدودية بإقليم بني شنقول الإثيوبي.تشمل المعسكرات مليشيا الدعم السريع، والحركة الشعبية – شمال بقيادة جوزيف توكأ، وقوات عبيد أبو شوتال، إضافة إلى مرتزقة من إثيوبيا وجنوب السودان، وقد جرى تجهيزها بكميات من العتاد استعدادًا للهجوم على مدينتي الكرمك وقيسان. كما كشفت المعلومات عن إنزال عتاد عسكري في قاعدتين جويتين داخل إقليم بني شنقول، وتحديث مطار أسوسا لدعم العمليات،ما يعكس تنسيقًا إقليميًا واضحًا بين السلطات الإثيوبية والداعمين للمليشيا، ويجعل احتمالات اشتعال جبهة النيل الأزرق محتملاً. احتمال تدخل إثيوبيا في السودان ليس مجرد فرضية، بل انعكاس لهشاشة المرحلة السياسية والجغرافية في المنطقة. السودان وإثيوبيا دولتان جارتان، جمعتهما الجغرافيا والتاريخ وفرّقتهما المصالح المتعارضة والتوترات الحدودية ،وفي قلبها إقليم النيل الأزرق والفشقة ، حيث الأطماع في الأراضي الزراعية و هشاشة إدارة الحدود وانشغال الدولة السودانية . ومع ذلك أي مغامرة عسكرية ستواجه قيودًا استراتيجية: تكاليف باهظة، استنزاف للجيش ، ومواجهة ردود فعل إقليمية ودولية، لا سيما أن أي تحرك ضد السودان يُقرأ تلقائيًا كتهديد للأمن المائي المصري المرتبط بسد النهضة.زيارة الرئيس عبد الفتاح البرهان إلى الرياض ثم القاهرة ثم أنقرة، ورسائله حول رفض أي هدنة طالما ظل الدعم السريع موجودًا، تعكس إدراك الخرطوم لأهمية الحوار السوداني السوداني ، ورفض الهيمنة الخارجية على أي مفاوضات، مع التأكيد على أن الجيش هو الضامن للسيادة الوطنية.رغم التحديات الداخلية، استطاع السودان خلال الحرب إعادة بناء منظومات الجيش ورفع قدراتها الفنية واللوجستية ، واستعادة السيطرة على العاصمة الخرطوم وعدد من الولايات، ما يضعه كلاعب فاعل في المعادلة الإقليمية، وليس مجرد قطعة تُلعب بها القوى الخارجية. الجيش السوداني بقدراته ومكانته التاريخية، والاسناد الشعبي الواضح ، يجعل أي جبهة جديدة ضمن استراتيجية “شد الأطراف” فاشلة في أهدافها .السياسة الدولية تحسب بتوازنات القوى، الوضع في الداخل الإثيوبي يعاني انقسامات ، من صراعات الأقاليم إلى هشاشة العقد الوطني، ما يجعل أي مغامرة خارجية محفوفة بالمخاطر. رغم ذلك طبيعة الأطماع المحيطة بالسودان تجعل من الأهمية التحوط لجميع السيناريوهات، مع وضع الجيش والجبهة الداخلية في أقصى درجات الاستعداد.في المقابل، ردود الفعل المصرية، مع الخطوط الحمراء المعلنة وتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك، تجعل من تدخل القاهرة محتملًا وواقعيًا، سواء بتوفير دعم عسكري أو عبر تحرك مباشر وفق القانون الدولي، ما يضيف بعدًا ردعيًا للإقليم ويسهّل عليها السيطرة على سد النهضة.الاعتراف الإسرائيلي بـ “جمهورية أرض الصومال” يضيف طبقة جديدة من التعقيد، إذ يضعف الإجماع العربي ويعيد رسم خطوط النفوذ في البحر الأحمر، ويحول الصومال إلى نقطة استراتيجية مفتوحة للتأثير الإسرائيلي على أمن الإقليم ، بما في ذلك النفوذ على الموانئ والممرات البحرية. هذا التحرك يعمّق المخاطر على السودان، ويجعله أكثر عرضة للضغط الخارجي بالنظر إلى تعقيدات المرحلة ، سواء سياسيًا أو اقتصاديًا، ويضعه في قلب لعبة النفوذ الإقليمي التي تشمل الإمارات وإثيوبيا ، وكلها تبحث عن استثمار الفراغ لتحقيق مكاسب استراتيجية.كذلك الاستقلال التدريجي لميناء بوصوصو عبر النفوذ الإماراتي يعزز التنافس الإقليمي في القرن الإفريقي والبحر الأحمر. أيضآ التحولات في إثيوبيا، مع استمرار هشاشة الدولة وصراعات عميقة في إقليم تيغراي، تجعل أي قرار بفتح جبهة خارجية محفوفًا بالمخاطر الاستراتيجية.الغزو المباشر ليس الأقل كلفة، غير أن إدارة الصراعات عبر الوكلاء ودعم المليشيا تبقى السيناريو الأرجح، في ظل قدرة قوى خارجية على استغلال الفراغ وتوسيع نفوذها. هنا يبرز السؤال الاهم : أين يقف السودان؟ أهو ساحة تتجاذبها القوى الإقليمية، أم دولة تستعيد زمام المبادرة وتفرض حضورها لاعبًا فاعلًا في معادلة القرن الإفريقي؟ المؤكد أن الإجابة رهينة بتماسك الداخل، ونضج النخب، ووعي المجتمع بأن حماية الأرض تسبق كل الحسابات، فمن دون وجود الدولة، يصبح الوطن وقودًا لمشاريع الآخرين.لذلك السودان أمام مفترق طرق. قوته الداخلية، ووعي نخبته، وقدرة الجيش على الصمود، هي التي ستحدد موقعه في القرن الإفريقي. أي جبهة جديدة أو تدخل خارجي سيقرأ وفق قدرة الخرطوم على إدارة تحالفاتها وحماية سيادتها، وفي النهاية، الأرض ليست لعبة، والسياسة ليست مجرد تحرك لحظي، بل استراتيجية مستدامة ومقدرة على التحكم والمناورة.بحسب #وجه_الحقيقة، ما يحدث في النيل الأزرق انعكاس لحروب بالوكالة على موارد السودان وموقعه الاستراتيجي. تتشابك السياسة بالجيوبوليتيك والمياه والأمن الإقليمي، ويصبح التوازن بين الدفاع عن الأرض والمناورة السياسية مفتاحًا لنجاح السودان في الحفاظ على دوره كلاعب فاعل في القرن الإفريقي، الذي لا يبدأ من الحدود وحدها، بل من الداخل، عبر استعادة منظومة الدولة، تفعيل المؤسسات، وإدراك أن الأمن القومي مسؤولية تتحقق بالقدرة على استخدام الأوراق الرابحة بذكاء.دمتم بخير وعافية.الثلاثاء 30 ديسمبر 2025م Shglawi55@gmail.com
