تشهد الأزمة السودانية في الأسابيع الأخيرة حراكًا سياسيًا مكثّفًا، يعكس دخول الملف مرحلة جديدة تستصدرها المملكة العربية السعودية، فيما بدأت الولايات المتحدة تلتقط إشارات هذا التحرك وتعيد صياغة مقاربتها تجاه الحرب، خصوصًا بعد تفاقم الكارثة الإنسانية في الفاشر وتصاعد الضغوط من الكونغرس والإعلام الغربي لاتخاذ موقف واضح من انتهاكات المليشيا.
ففي أعقاب لقاء وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بنظيره السعودي على هامش اجتماعات مجموعة السبع – التي أدانت المليشيا صراحة ودعت لوقف الحرب – خرج روبيو بتصريحات لافتة تناولت الأزمة السودانية عبر ثلاث نقاط محورية: تجفيف مصادر تسليح المليشيا، بحث تصنيف الدعم السريع “منظمة إرهابية”، وتفعيل التنسيق الإقليمي لوقف العنف وحماية المدنيين.
وأشار روبيو بوضوح إلى أن تسليح المليشيا يجري عبر دول “تسمح باستخدام أراضيها لنقل السلاح”، في إشارة مباشرة إلى الإمارات وتشاد وليبيا حفتر . وهو ما اعتبره مراقبون أول اعتراف أمريكي صريح بوجود شبكات تسليح عابرة للحدود تُطيل أمد الحرب.
تكتسب هذه التصريحات أهميتها لأنها تأتي قبل أسبوع من الزيارة المرتقبة لولي العهد السعودي إلى واشنطن، وهي زيارة يُتوقع أن يتصدر فيها ملف السودان جدول المباحثات، إلى جانب ملفات الدفاع والطاقة والذكاء الاصطناعي.
هذا التزامن بين التحرك السعودي والتجاوب الأمريكي يشير إلى أن الملف السوداني بات جزءًا ثابتًا من الحوار بين الرياض وواشنطن. حيث بدأت واشنطن تُغيّر خطابها تدريجيًا.
فقد أكد روبيو أن قوات الدعم السريع: “توافق ثم لا تلتزم أبدًا”، محمّلًا إياها مسؤولية خرق اتفاقات سابقة والاتفاقات الإنسانية، بل وملمحًا بحسب مراقبون إلى اتفاق غير معلن رعته واشنطن بعدم دخول المليشيا إلى الفاشر تمهيدا لإقرار الهدنة الإنسانية. كما حذّر من أن استمرار الحرب قد يحوّل السودان إلى بؤرة لنشاط الجماعات الإرهابية.
الواضح أن هذه نقله نوعية في الخطاب الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية، فإن تصنيف الدعم السريع منظمة إرهابية لن يكون مجرد إجراء قانوني، بل تحول استراتيجي يعيد تموضع السودان داخل خريطة مكافحة الإرهاب، ويعزز شرعية الحكومة السودانية أمام المجتمع الدولي.
وقد رحب وزير الخارجية السودانية محي الدين سالم بهذه التصريحات، معتبرة أنها بداية جادة لوضع المليشيا أمام مسؤولياتها القانونية ومحاسبة كل من زودها بالسلاح أو فتح أراضيه لعبور المرتزقة.
تشير المعطيات إلى أن السعودية باتت القوة الإقليمية الأكثر تأثيرًا في الملف السوداني، متقدمة على الآخرين على الأقل في هذه المرحلة. الرياض التي أثبتت حضورًا وازنًا في ملفات سوريا واليمن ولبنان والبحر الأحمر، تتحرك اليوم في السودان من منطلق استراتيجي: وفقا لمعطيان مهمان الأول منع تحوّل البلاد إلى منطقة رخوة قرب حدودها الغربية وممرات البحر الأحمر الحيوية.
الثاني تمسك المملكة بالملف ليس بدافع الوساطة فقط، بل ضمن معركة نفوذ هادئة مع أبوظبي والقاهرة وأنقرة والدوحة حول من يرسم ملامح السودان ما بعد الحرب. وهي تدرك أن الإمساك بمفاتيح السلام يعني الإمساك بخريطة البحر الأحمر و القرن الإفريقي وربما عمق إفريقيا.
المكالمة الهاتفية التي نقلها موقع ميدل إيست بين البرهان وولي العهد السعودي حملت دلالات مهمة. فكسر الصمت الطويل بين الرياض والخرطوم يكشف أن السعودية باتت مستعدة للتدخل في منطقة كانت تتحاشاها: التواصل المباشر مع واشنطن بشأن دور الإمارات في الحرب.
خلال المكالمة لم يطلب البرهان دعمًا، بل طالب السعودية بأعاد تعريف طبيعة الحرب: هي ليست صراع جنرالين، بل مشروع تفكيك للدولة برعاية شبكة إقليمية، وما حدث في الفاشر دليل دامغ على ذلك.
هذا التأطير الذي بدأ أن السعودية تتفهمه منحها مبررًا للانتقال من التردد إلى الاصطفاف المباشر، ويمنح واشنطن غطاءً سياسيًا لتصنيف المليشيا إرهابية دون خسائر سياسية.
بموجب هذا الدور للسعودية باتت واشنطن تسير في مسارين متوازيين: الأول :دعم المملكة كقوة إقليمية مؤثرة و قادرة على إدارة الأمن دون إشعال المنطقة. ثانيا: الحفاظ على نفوذها في شمال إفريقيا والساحل دون تدخل عسكري مباشر.
لهذا جاءت لهجة روبيو قريبة من “التأييد الهادئ”، حين قال إن دعم السودان لمحاربة الإرهاب “لا يحمل أثرًا سياسيًا”. بمعنى: واشنطن لن تتدخل ، لكنها تمنح تفويضًا سياسيًا للسعودية والجيش السوداني لمحاصرة المليشيات.
التصريحات الأمريكية التي ألمحت إلى دور جهات تسمح بمرور السلاح وضعت الإمارات في موقع دفاعي، خصوصًا بعد موجة الإدانة الدولية للفظائع في الفاشر. وقد بدأت واشنطن بمراقبة شبكات التسليح بصرامة أكبر، ما يشير إلى بدايات تحول جوهري في تعاملها مع التدخل الإماراتي. الذي كما يبدو بات مبعث قلق لأمريكا نفسها بالنظر إلى مساهماتها المثبتة في زعزعة الأمن والاستقرار في عدد من الدول العربية.
تشكل هذه اللحظة مكسبًا سياسيًا نادرًا للحكومة السودانية: فإذا صُنفت مليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية، فسينتقل السودان من مربع “نزاع داخلي” إلى “معركة ضد الإرهاب”. وهذا يتوافق مع الخطاب الأمريكي ويفتح قنوات الدعم الفني والاستخباراتي.
من الواضح أن المسار المقبل: نحو خريطة سلام سعودية بغطاء أمريكي، الأسابيع المقبلة قد تحمل تحولاً نوعيًا إذا تبنت واشنطن الملف ضمن مباحثات ولي العهد السعودي ، ما قد يؤدي إلى: إعادة تنسيق الموقف الدولي تحت المظلة السعودية. بالإضافة إلى تجفيف منابع السلاح وإغلاق المنافذ. كذلك توحيد الجهود الإنسانية والعسكرية ضد المليشيات.
وفي كل السيناريوهات، بات الإقليم يميل بثقة نحو الدور السعودي الذي بدا في ضبط الإيقاع وإعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة. إن المؤشرات الراهنة تدل بوضوح على أن: السعودية تمسك بزمام المبادرة السياسية في السودان. واشنطن تتجاوب تحت ضغط الداخل وتغير خارطة المصالح. الإمارات في موقع دفاعي مخزي. الخرطوم تستعيد موقعها داخل المعادلة بفضل تحركاتها السياسية و الدبلوماسية.
ختاما وبحسب #وجه_الحقيقية فأن تلاقي الموقفين السعودي والأمريكي حول تجفيف السلاح، ودعم الدولة السودانية، ومحاربة الإرهاب، يفتح الباب أمام مقاربة جديدة أكثر جدية وفاعلية لوقف الحرب وبناء سلام مستدام في السودان والمنطقة.
دمتم بخير وعافية.
السبت 15 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com
