وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي استعادة وثائق الري أمن قومي

في زمن النزاعات لا تكمن الخطورة فقط في الخسائر البشرية والمادية، بل فيما تتعرض له الدولة من تآكل في ذاكرتها المؤسسية. وحين يتعلق الأمر بوزارة الري والموارد المائية، فإن الحديث لا يقتصر على منشآت أو ملفات فنية، بل على مؤسسة سيادية ترتبط بشكل وثيق بالأمن القومي، من خلال دورها في إدارة المورد الأكثر حساسية واستراتيجية في البلاد ألا وهي المياه. إن فقدان أرشيف هذه الوزارة سواء كليًا أو جزئيًا، يمثل خلل إداري كبير ، بجانب انه تهديدًا حقيقيًا لقدرة الدولة على التخطيط والاحتفاظ بحقوقها والتفاوض الفعّال في الملفات الإقليمية.

نحاول في هذا المقال استعراض أبعاد هذه الإشكالية، من زاوية ما يمثله الأرشيف كعنصر حاكم في منظومة القرار، وما يفرضه الواقع الراهن من تحديات على صعيد الحفاظ على الإرث الفني والمؤسسي، في ظل الصراعات الداخلية والضغوط الإقليمية المتزايدة على الموارد المائية.

وزارة الري في السودان هي الوريث الشرعي لقرنٍ كاملٍ من التخطيط المرتكز على معادلة: الأرض، والماء، والسيادة. فمنذ بدايات مشروع الجزيرة في العشرينيات من القرن الماضي، حتى تنفيذ السدود الكبرى مروي، ستيت الرصيرص، لعبت هذه الوزارة دورًا مركزيًا في تحويل السودان إلى مرشح دائم ليكون سلة غذاء العالم العربي وأفريقيا. إن الأرشيف الذي يحتفظ بتفاصيل هذه التجربة، يعتبر ذاكرة وطنية وسياسية واقتصادية وهندسية لا يُستغنى عنها في إعادة البناء.

عندما كنت بين عامي 2017 و2019 مسؤولًا عن مجلس التنسيق الإعلامي وناطقًا رسميًا باسم الوزارة، كنا ندرك تمامًا هذه القيمة. لهذا أطلقنا مشروعًا توثيقيًا واسعًا بالتعاون مع وحدة السدود ومركز معلومات الوزارة، تضمن أرشفة رقمية وورقية لكل المستندات الفنية، بما فيها تلك الخاصة بوكالة الري بود مدني وتاريخ الري في السودان، وجزء كبيرا من أرشيف مشروع الجزيرة والمناقل، الذي يعود إلى نحو مائة عام من العمل المستمر. لقد كان ذلك عملًا استباقيًا لحماية ذاكرة الدولة في ظل ما كنا نلمسه من هشاشة سياسية متصاعدة. بحمد الله نجح المشروع.

اليوم وبعد التصريحات التي أطلقها وزير الري المهندس ضو البيت عبد الرحمن عبر “سونا” عن فقدان وثائق أساسية نتيجة تدمير منشآت الوزارة بواسطة الميليشيات المتمردة، يعود السؤال: هل نجت تلك الوثائق؟ وإذا لم تنجُ، كيف ستتمكن الدولة من استعادة عقلها المؤسسي في واحدة من أكثر القطاعات حساسية؟

ما يجعل هذا السؤال أكثر إلحاحًا هو أن السودان يتحرك ضمن سياق إقليمي يتوقع أن يشتد فيه الصراع على الموارد المائية في حوض النيل، حيث يتجه تدريجيًا من كونه خلافًا فنيًا إلى صراع سيادي إقليمي، لا سيما مع استمرار أزمة سد النهضة. لقد فشل السودان حتى اللحظة في الوصول إلى تفاهمات مرضية مع الجانب الإثيوبي بشأن تشغيل السد وإدارته، بما يضمن حصة السودان التاريخية ويصون مصالحه الزراعية والبيئية والاقتصادية. وهذا الفشل في جزء كبير منه، يحتاج إلى تقوية موقفنا التفاوضي من خلال امتلاك قاعدة بيانات قوية وشاملة تكشف الضرر المحتمل وتقترح السيناريوهات للتعامل مع تغيرات التدفق المائي.

غياب الأرشيف في هذه المرحلة يعني غياب الحجج، وغياب الأدوات، وغياب القدرة على الرؤية. وهذا ما يجعل فقدان الوثائق ليس فقط كارثة إدارية، بل انتكاسة سيادية كبرى. فالمفاوضات لا تُدار بالعواطف ولا بالنوايا الحسنة، بل بالبيانات الدقيقة والخبرة التاريخية وسجلات التشغيل والصيانة، وكل ما توفره الوثائق.

ومن هنا تصبح حماية ما تبقى من أرشيف وزارة الري، أو محاولة استعادته بأي شكل، أولوية لا تقل أهمية عن إعادة تشغيل المحطات والمنشآت. وإذا كنا قد أطلقنا في الأمس مبادرة لتوثيق هذه الذاكرة، فإن واجب المرحلة الآن هو إطلاق مشروع وطني لإعادة بناء الأرشيف، بمشاركة الوزارات والمؤسسات الأكاديمية والخبراء، وكل من يمتلك نسخة من ماضي السودان المائي.

إن مشروع الجزيرة، بكل تعقيداته الميدانية والهيدرولوجية، لا يمكن إحياؤه من دون أرشيف يوضح كيف تدفقت المياه وأين تعطلت. بل إن “مشروع الحملة الشعبية لقنوات الري في الجزيرة والمناقل”، رغم أهميته الميدانية، سيظل محدود الأثر من دون ذاكرة تقنية وهندسية تستند إليها مراحل التنفيذ وتحديد الأولويات.

هذا، وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن أرشيف وزارة الري يعتبر أحد مفاتيح السيادة الوطنية في واحدة من أخطر ساحات الصراع الإقليمي: صراع الموارد. فالمستندات التي توثق قرنًا من الخبرة والمعرفة والتخطيط المائي، هي رصيد تفاوضي ومرجعية علمية وركيزة لإعادة بناء الدولة. إن ضياع هذه الذاكرة يعني تقليص قدرة الدولة على الدفاع عن مصالحها داخليًا وإقليميًا. ولهذا، فإن استعادة الوثائق وحمايتها يعتبر خيارًا أمنيًا وسياسيًا بالغ الأهمية، يتطلب إرادة وقرارات فورية تدرك أهمية هذا الأرشيف لمستقبل البلاد في إدارة موارد المياه.

دمتم بخير وعافية.

الأربعاء 21 مايو 2025م Shglawi55@gmail.com