بروفيسور صلاح محمد إبراهيم _ السودان بين مثلث حمدي والأجندة الغربية

استمعت عبر قناة الحدث لما ذكره المحلل السياسي الأميركي من اصول مصرية إيهاب عباس قبل ايام و الذي اورد ضمن حوار معه أن السودان لا يحظى باهمية أو أولوية ضمن السياسة الخارجية الأميركية ، ومثل هذا القول فيه قدر كبير من الصواب ، فالسودان ليس من الدول التي يمكن أن تهدد المصالح الأميركية وليس له سياسات عدائية ضد جيرانه ، ولا يشكل خطراً على الوجود الأميركي في الشرق الأوسط أو يعتبر مهدداً لأمن اسرائيل، لذلك يستغرب المرء الضغوط التي اطلت برأسها مؤخراً من قبل واشنطن حول ملف الحرب الدائرة الان وأصرار المبعوث الأميركي توم بيرليو على نقل منبر جدة إلى جنيف وفقاً لرؤية أميركية مختلفة ادخل عليها تعديلات باضافة مسهلين جدد اعترضت عليهم الحكومة السودانية ، في وقت لم يكلف نفسه حتى بزيارة السودان .
ربما لا يجد المراقب للتدخل الأميركي في السودان غير أنه يتم لصالح دوائر اقليمية أو تكريس لفكرة تقسيم السودان التي يتم الترويج لها منذ فترة في الكثير من مراكز الفكر ( Think Tanck ) الأميركية والأوروبية ، وهي فكرة بدأت منذ ما قبل استقلال السودان مع شعار وحدة وادي النيل حتى لا تظهر دولة قوبة كبرى في قلب القارة الأفريقية.
ظلت الحكومات السودانية منذ الاستقلال في علاقاتها الخارجية ضحية لأخطاء متراكمة بسب غياب الفكرة والرؤية الاستراتيجية حول الأمن القومي السوداني والحدود الجفرافية للسودان بعد سقوط شعار وحدة وادي النيل وعدم توحد الرؤية حول هذا الهدف الذي كان يجب أن يكون المحور والركيزة الأساسية للعمل السياسي مهما اختلفت برامج الاحزاب.
الأحزاب التاريخية السودانية التي نشأت قبل استقلال السودان مثل احزاب الأمة والحزب الوطني الاتحادي والحزب الشيوعي تدعي كلها أنها تعمل من أجل الوصول إلى حكم مدني ديمقراطي ، للأسف كلها ظلت تقوم على الدكتاتورية وتعمل قواعدها بالاشارة من الزعيم الطائفي أو كبير المفكرين وفلاسفة الحزب كما في الحزب الشيوعي وانطبق ذلك فيما بعد على احزاب الاسلاميين و البعث وغيرها من المسميات الحزبية القبلية وانقساماتها حتى وصلت العشرات ، الديمقراطية في الحياة الحزبية السودانية ليست أكثر من شعارات فارغة المحتوى ولا تعبر عن قناعة حقيقية في الرغبة في بناء دولة تقوم على حكم القانون والحكم الديمقراطي الرشيد الذي يمكن أن ينقل السودان إلى دولة حديثة ومعاصرة، بل ظلت تكريس للخلافات والصراعات لمصالح ضيقة غبر الوصول إلى كراسي الحكم ، وهو ما تسبب في الحرب التي بدأت أبريل 2023.
ورثة الأحزاب السودانية حكم ليبرالي شبيه بنظام وستمنستر البريطاني بناء على التركة والرغبة الاستعمارية البريطانية التي ارادت التخلص من الكثير من المستعمرات بعد فشلها في ادارة الكثير من المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية حتى تتفرغ لتحمل تبعات البناء والكساد الاقتصادي الذي عم القارة الأوروبية ، ولم تصدق الأحزاب السودانية التي كان يسيل لعابها لإستلام السلطة وقبلت الانتقال على عجل رغم أن أحد البريطانيين ( هيوبرت هدلستون) من الذين حكموا السودان كان بعارض نقل الحكم إلى الأحزاب السودانية وقال أن على السودان أن ينتظر عشرين عاماً حتى ينال الاستقلال .
للأسف أن مقولة ( هدلستون) ثبت أنها كانت عين الحقيقة على الرغم من أنه يعتبر من أكثر الحكام عداءاً للسودانيين ، فشلت الأحزاب السودانية في استغلال الفرصة ولم تحسن ادارة الدولة واصلاح احوالها السياسية وبناء نظام ديمقراطي حقيقي يقوم على المؤسسية واحترام القانون ويحفظ السيادة الوطنية وعدم التقدير السليم في اتخاذ القرارات التي تحفظ للبلاد المسار التاريخي الذي كان من المفروض أن تؤسس عليه الدولة السودانية .
في ظل غياب رؤية حول ثوابت الأمن القومي السوداني كان أول خطأ ارتكبته حكومة الأزهري الأولى هو التسليم بإدارة جنوب السودان بحكم الأمر الواقع الذي فرضة الاستعمار على الحكم الوطني على الرغم من أن أحد كبار الاتحاديين ( يوسف التني) حذر الزعيم الأزهر من خطورة القبول بضم الجنوب إلى الجمهورية السودانية ، وتم تزوير ارادة الجنوبيين في مؤتمر جوبا عام 1947، بحشد سلاطين الجنوب غي مظاهرة مزيفة واجبارهم على الموافقة على الانضمام إلى الجمهورية السودانية الجديدة ،وكانت النتيجة مذبحة توريت في أغسطس عام 1955 التي راح ضحيتها عدد من الموظقين الشماليين في الجنوب ومحصلتها النهائية سلسلة من حركات التمرد و انقصال الجنوب عام 2011، بعد تكلفة الحروب التي امتدت لعشرات السنوات واستنزفت كل موارد السودان وكانت من الأسباب الرئيسية لتخلف السودان وتراجع التنمية وتدهور الأوضاع الاقتصادية حتى يومنا هذا.
ارتكبت الأحزاب السودانية خطأها الثاني عشية افتتاح البرلمان السودان عندما حشد حزب الأمة جماهيره في الخرطوم لمعارضة زيارة محمد نجيب لحضور افتتاح البرلمان السودان في 13 مارس 1954 وهي حشود تسببت في مظاهر عنف دامية عرفت في التارسخ السياسي( بحوادث مارس 1954) ، واعتبر ذلك كممارسة عنف غير مسبوقة في العمل السياسي وكانت بمثابة تشجيع ظهرت تبعاته في المستقبل عندما قامت الكثير من الحركات المسلحة في بعض الحواضن التاريخية لحزب الأمة في غرب السودان باعتماد المعارضة المسلحة كاسلوب للعمل السياسي.
الخطأ الثالث عام 1958 عندما قدم حزب الأمة السلطة إلى الفريق عبود على طبق من ذهب في شكل عملية تسليم وتسلم من رئيس الوزراء عبداللة خليل إلى قائد الجيش بسبب خلافات سياسية داخل الحزب وتمت مباركة الانقلاب من السيدين على الميرغني وعبد الرجمن المهدي زعيمي طائفتي الختمية والأنصار ، وقد فتح ذلك الباب لشهية العسكريين للقفز إلى السلطة كلما تفاقمت الخلافات والصراعات الحزبية التي كانت السبب الرئيسي في كل الانقلابات العسكرية التي حدثت بعد ذلك في 1969 و1989.
الولايات المتحدة الأميركية كانت حاضرة في الساحة السياسية السودانية منذ محادثات الحكم الذاتي في القاهرة عام 1953 عبر سقيرها، وحاضرة عند الاعلان استقلال السودان وكانت الدولة الثالثة التي اعترفت باستقلال السودان بعد كل من مصر وبريطانيا، وهي شاهد على كل التجارب الديمقراطية الفاشلة والتركيبة الحزبية الهشة غير الديمقراطية وتعلم مخاطر وأخطاء الحكم الحزبي في السودان على الأقل في هذه المرحلة التي تفاقمت فيها الانقسامات والصراعات الحزبية بين طائفية اسرية وعقائدية حزبية ، وكلها لا تقود إلى تأسيس دولة مدنية حديثة تقوم على سيادة الدستور والقانون ، لذلك كانت واشنطن من اكثر الدول التي دعمت الحكومات العسكرية وتصالحت معها في السودان مثل حكومتي الفريق عبود والرئيس نميري ، وفي نفس الوقت كانت من اقل الدول التي دعمت الحكومات الديمقراطية الثلاثة التي حكمت السودان منذ الاستقلال، وكان الاستثناء الوحيد هو تقديم مشروع المعونة الأميركية عشية انقلاب الفريق عبود وكان الدافع من ورائه استمالة حكومة عبداللة خليل للوقوف ضد جمال عبد الناصر والقومية العربية، ودعمت الولايات المتحدة الرئيس نميري بعد أن تخلص من الشيوعيين بعد المحاولة الانقلابية ضده من بعض العناصر المحسوبة على الحزب الشيوعي عام 1971، وهي محاولة لاستقطاب السودان بعيداً عن المحور الشرقي خلال فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي وكلها سياسات مبينة على مصالح كانت بعيدة عن التدخل المباشر في الشأن السوداني .
غير أن الملفت الان في التدخل الأميركي الكثيف عبر المبعوث توم بيرليو ( من المقروض أن تنتهي مدت ابتعاثه مع نهاية فترة الرئيس بايدن) في السودان هو حدوثه في ظل غياب مصالح اميركية واضحة ومباشرة سوى القول أن هذا التخل يتم لصالح حلفاء افليميين في ظل واقع يقول أن السودان لا يحظى بأولوية في السياسة الأميركيىة الخارجية االمشغولة بأمن اسرائيل والخليج العربي وشرق اسيا وبحر الصين حيث توجد المصالح الحيوية لها .
هناك قناعة راسخة في السياسة الأميركية تم تداولها عبر الكثير من مراكز الفكر الأميركية وهي أن السودان دولة يجب تفكيكها |لي دويلات لأنه اقاليم تم تجميها بواسطة الإدارة البريطانية مثل اقليمي دارفزر وجنوب السودان اللذان تم ضمها إلى السودان التركي المصري بعد عام 1917 بصعوبة تمشياً مع التنافس الاستعماري الذي كانت الدول الاستعمارية تهدف من ورائه لى الاستحواذ على اكبر مساحة جغرافية بغض التنوع القبلي والثقافي والتطور التاريخي ،والملفت أن مثلث حمدي الشهير الذي تمت شيطنته دون تمعن في بعده الاستراتيحي لمجرد أنه صدر من احد الاسلاميين وتم تداوله قبل انفصال الجنوب كان قريباً من الأفكار التي تخرج من مراكز الفكر الغربية، ويبدو أننا في حاجة لمزيد من النظر في الجغرافية السياسة وعلاقة ذلك بمستقبل الدولة السودانية.