شهدت الحركة الإسلامية وتنظيماتها السياسية في السودان العديد من الانشقاقات والمسميات منذ تكوينها الباكر في عهد الرشيد طاهر بكر وعلي طالب الله إلى عهد الدكتور الترابي وقيادته للحركة الاسلامية عبر جبهة الميثاق، واستقلالها عن تنظيم الإخوان المسلمين في مصر بقيادة حسن البنا وسيد قطب، ثم إلى أن تقوقعت الحركة الإسلامة حول نفسها تحت لافتة الجبهة الإسلامية القومية استعداداً للانقضاض على الحكومة في عهد الصادق المهدي وهو ما حدث في الثلاثين من يوينو 1989م.
الشاهد أنّ التنظيم الحركي الإسلامي بعد استيلائه على السلطة انشطر إنشطاراً أميبياً مرتين بارزتين أولاهما في رمضان 2000 إبان انفراد البشير بالحكم بعد مذكرة العشرة الشهيرة واستبعاد الترابي الذي كان يقود البرلمان وقتها، ليخرج من روليت السلطة في عزلة جديدة ومعارضة جديدة استولدت غبناً سياسياً وشخصياً كثيفاً أنتج المؤتمر الشعبي الذي ضم الكثير من (المغابين) واستولد كذلك الكتاب الأسود والحركات المسلحة بقيادة خليل إبراهيم وداؤود يحي بولاد وكلاهما من تلامذة الترابي والحركة الإسلامية منذ سنوات باكرة، وخلال هذا الإنشطار الأميبي الأول حدثت تكوينات وتحالفات وتعقيدات غيرت كثيراً من المشهد الجيوبوليتيكي في غرب السودان انتهى إلى بروز دور جديد للقبلية في مواجهة الصراع السياسي المؤدلج، واستنتج ذلك بروز الجنجويد كأداة استخدمها الجناح السياسي الحاكم في الخرطوم بخلفيته الإسلامية ضد حلفاء الأمس أعداء اليوم أوانذاك في الحركات المسلحة التي يقودها أبناء الحركة الإسلامية أيضاً، وكان ينظر لها من طرف خفي ودعم لوجستي الترابي وحزبه المؤتمر الشعبي، فالغبن السياسي الذي أفرزته المفاصلة الشهير بين أعضاء الكيان الحاكم هو الذي كان الحاضنة السياسية لأزمة دارفور التي تمددت حتى التهمت كل السودان كما نراها اليوم.
أما الإنشطار الأميبي الثاني فهو إعلان الحرب في قلب الخرطوم للأسف بواسطة أعضاء أصيلين في حركة الإسلام السياسي التي حكمت الخرطوم ممثلاً ذلك في الدعم السريع وهو الإسم الرسمي لما كان يطلقون عليه في دارفور الجنجويد وهو صنيعة للتنظيم الإسلامي الحاكم والمعارض على السواء، وذراع كانت تعتمد عليه كثيراً في معادلة صراع غرب السودان، والحرب الحالية هي صراع بين فرقاء اليوم حلفاء الأمس وقد كان الجميع على كابينة واحدة في دفة القيادة، إذن فبعد انشقاق الترابي البشير، والاستعانة بغرب السودان بكوادر إسلامية ضد نظام الخرطوم، هاهو التاريخ يعيد نفسه بين الإسلاميين بانشطارهم الأميبي حول أنفسهم ليقتتل الإخوة الأعداء ولكن في قلب الخرطوم هذه المرة وقلب السودان.
إنّ أسوأ ما أنتجته حواضن الإسلاميين السياسية والتنظيمية وهو ما يمثل فشلاً ذريعاً بطبيعة الحال أنها أنتجت الكثير من قادة حرب السودان وخلفيات الكثيرين منهم تنظيمياً نشأت على قصعة واحدة مع تنظيمات الحركة الإسلامية السودانية التي تشتت بها السبل في سنوات الحكم الثلاثين’ وفي سبيل السلطة حدثت إئتلافات محمومة مشحونة بالغبن السياسي استخدمت كل شئ بلا كوابح وطنية ولا سياسية بل ولا أخلاقية كما نرى اليوم.
لقد باتت الساحة السياسية السودانية الغارقة في أتون الحرب الحالية ملعباً لأخوان الأمس أعداء اليوم بينما انزوت كل الأحزاب الأخرى لدور الكمبارس. ومن المؤسف أن يكون هذا الصراع مدفوع الثمن على طاولة الوطن والمواطن حرقاً وقتلاً وتدميراً وتشريداً غير مسبوق تدحرج بالبلاد إلى ما لا يمكن العودة منه إلا بعشرات السنين من العمل الشاق، والسودانيون خلالها موعودون بسنوات من الفقر المدقع على فقر مزمن زادته الهلكة الاقتصادية عبر سنوات متراكمة من الفشل السياسي المزمن.
صحيح لن نستطيع أن ننسب الفظائع التي ارتكبتها المليشيات المتمردة للإسلاميين على إطلاقها هكذا فقد انضمت لها الغوغاء والمتردية والنطيحة، فالدهماء بطبيعة الحال يستظلون ويجدون ضالتهم في الفوضى وغياب القانون وبيئات الحرب والعنف رغم أنّ كل شئ تم تحت سمعهم وبصرهم كحكومة وقتها ترفع شعارات الإسلام السياسي حتى انقلب السحر على الساحر.
ومن المؤسف القول إنّ كلا الطرفين المتصارعين وفرا بيئة خصبة للتجاوزات والانتهاكات الانسانية بالحرب الدائرة الآن، غير أنّ المليشيا المتمردة في الدعم السريع تحورت كذلك لوحش كاسر تمرد على التنظيم الذي اصطنعه لنفسه وعلى الدولة وعلى الشعب حين فعلت كل الموبقات بحق الشعب الأعزل تحت شعارات جوفاء تدعي الديمقراطية بينما تمارس أفعالاً إجرامية بشعة وتفريغ للمدن والقرى من ساكنيها الأصليين.
نعم ستتوقف الحرب طال الزمن أم قصر لكن الجيش بمهنيته العسكرية خاض معركته الحالية بالحديد والنار، وسيخوض معارك مستقبلية حتمية سيدفع خلالها ثمن مثل هذه الانشطارات الأميبية للمتحزبين والمغابين وما استولدته من كيانات طفيلية وفيروسية شائهة أمرضت واهلكت جسد هذا السودان الملكوم بأبنائه.
بقلم/ د. محمد قسم الله محمد ابراهيم_ الإنشطار الأميبي الثاني للحركة الإسلامية السودانية
