:يوسف عبدالمنان_حديث السبت _أركو مناوي.. رجل صنعته الحرب وأنضجته التجربة

هل يعود الطاهر حجر وعبد الواحد وعبد الجبار دوسه؟
علماني بلا تطرف.. وإسلامي بلا قيد تنظيمي

1

شهد الأسبوع الماضي حدثًا مهمًا على صعيد إقليم دارفور، تمثّل في انشقاق مجموعة كبيرة من المقاتلين عن قوات الدعم السريع، بقيادة القائد الطاهر حجر، وانضمامهم إلى حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي.
فهل تمثل هذه الخطوة عودةً إلى الأصل، أم انضمامًا إلى فصيل جديد بالنسبة لهؤلاء المقاتلين؟

في الواقع، فإن أغلب – إن لم يكن جل – منسوبي الحركات المسلحة في دارفور يحملون جينات حركة تحرير السودان بقيادة مناوي، باعتبارها الحركة الأم التي تناسلت منها بقية الحركات، باستثناء حركة العدل والمساواة التي وُلدت من رحم الانشقاق الذي ضرب الحركة الإسلامية في ظروف مغايرة لولادة حركة تحرير السودان المرتبطة بميلاد زعيمها مني أركو مناوي.

ولا مشاحة في القول إن الحديث عن تطورات الراهن له ارتباط وثيق بالأمس. فالمارشال مناوي، كما يُطلق عليه الآن، خرج إلى الدنيا طفلًا في بادية الزغاوة أقاصي شمال دارفور. في عام 1968، وُلد مني أركو مناوي في قرية صغيرة تُسمى “فوراوية”، وقيل – والعهدة على الراوي – إن يوم ميلاده شهدت المنطقة أمطارًا غزيرة.

ومثل كثير من قبائل السودان، يحمل المولود اسمين، بينما في جنوب السودان يحمل الرجل أو المرأة ثلاثة أسماء. ومني أركو مناوي هو في الأصل “سليمان”. وله أشقاء أشهرهم الدكتور خميس، المتخصص في اللغة الفرنسية.

حين رأى مناوي ضوء الشمس، كانت شمس الحقبة الديمقراطية الثانية توشك على الغروب، وكان حزب الأمة هو سيد الساحة في دارفور، باعتبارها مخزونًا انتخابيًا مضمونًا، وربما لذلك تفتح وعي مناوي على واقع أكثر بؤسًا من بقية أقاليم السودان.

درس مناوي الابتدائية بمدرسة فوراوية – ولم نجد تفسيرًا لتسمية قرية أغلب سكانها من الزغاوة باسم قبيلة أخرى – ثم التحق بالمتوسطة في “كارنوي”، التي تمثل أكبر حواضر دار زغاوة بشمال دارفور. وكان مناوي طالبًا مشاغبًا، مهملاً لدروسه، لكنه حاد الذكاء إلى درجة النبوغ. ورغم ضعف بنيته الجسدية، كان شجاعًا، كثير الدخول في الخناقات التي كان يسعى زملاؤه لفضّها.

ومن “كارنوي” إلى “الفاشر الثانوية”، حيث يبدأ عادة التكوين السياسي للطلاب. كان الحزبان الأكثر نشاطًا في تلك المرحلة هما الإسلاميون والجبهة الديمقراطية، لكن مناوي لم ينضوِ تحت أي من الجبهتين. مثل كثير من أبناء الفقراء، التحق بالتدريس معلّمًا بمدرسة فوراوية، وكأنه يرد الجميل لبداية مسيرته التعليمية، لكنه كان قلقًا بطبعه، لم يستقر طويلًا في مهنة التعليم، وغادر إلى نيجيريا، حيث درس دبلوماً في اللغة الإنجليزية في بلاد الهوسا والفولاني، وامتهن التجارة بين دارفور ونيجيريا، خاصة تجارة العطور ومستحضرات التجميل.

وفي عام 2003، كان ميلاد مناوي الثاني؛ حين حمل البندقية بعد أن أرغمه صديقه ورفيق دربه الشهيد عبد الله أبكر على تكوين أول خلية مسلحة في “كارنوي”، وحشد الشباب من أبناء منطقته ثائرين في مواجهة الإدارة الأهلية والسلطات المحلية التي رصدت تسلل مناوي ومجموعته ليلاً خارج المنطقة للتدريب القتالي. وبسبب رعونة السلطات وعدم تقديرها للمناخ العام آنذاك، حمل مناوي السلاح، وتم تكوين حركة تحرير السودان.

وربما استلهم مناوي من الحركة الشعبية أدبيات النضال، إذ كان يشغل منصب الأمين العام بينما تولى عبد الله أبكر رئاسة الحركة. ثم تطور الأمر لاحقًا بعد مفاوضات مع عبد الواحد محمد نور، الذي كان ناشطًا سياسيًا في زالنجي لكنه لا يملك بندقية واحدة.
أشرف مناوي على تدريب مقاتلي الفور بجبل مرة، ومكث هناك شهورًا، وتقديرًا لعبد الواحد، تم إسناد رئاسة الحركة إليه حتى مؤتمر حسكنيته، الذي كان بمثابة مفاصلة بين الرجلين لاختلاف شخصيتيهما: فالأول ثائر لا يكترث لعواقب أفعاله، والثاني متردد وله حسابات متعددة.

ومن حيث الاعتقاد والتوجه السياسي، يُعدّ مناوي علمانيًا بلا تطرف، وإسلاميًا بلا قيود تنظيمية.

2

بعد توقيعه اتفاق أبوجا مع نظام الإنقاذ، أُسنِد إليه منصب “مساعد الرئيس”، وهو منصب بلا توصيف دستوري ولا سلطة حقيقية.
لكن مناوي أثبت في ذلك المنصب قدرة فائقة على كسب تعاطف الناس معه ومع قضية دارفور التي حملها على كتفيه.
اجتمع حوله الطامحون في المناصب، وحين لم يجد بعضهم مبتغاه، غادر الحركة، ومنهم من أسس حركات منسوخة من “التحرير” بإضافة صفات مثل “الجديدة” و”الديمقراطية”.

غادره كثيرون: د. الريح محمود، عبد الجبار دوسه، علي حسين دوسه، نمر عبد الرحمن، عبد الله يحيى، والطاهر حجر، لكن بقيت حركة تحرير السودان بقيادته تمثل الأصل، وقائدها هو من يملك “شهادة بحث التأسيس الأولى”.

خاض مناوي معاركه العسكرية والسياسية، وإذا كانت حركة العدل والمساواة قد نفذت عملية “الذراع الطويل” ووصلت إلى أم درمان، فإن مناوي وجيشه هم من وصلوا إلى الفاشر – عاصمة الإقليم التي استعصت الآن على حميدتي ودولة الإمارات في ثلاث سنوات – بينما اقتحمتها قوات مناوي في ثلاث ساعات.

تملك قواته في الميدان قدرة فائقة على القتال يتسم بالشجاعة حتى حد التهور. وخلال سنواته في القصر، فتح مكتبه وبيته لكل أهل دارفور والسودان، يستقبلك بود وتقدير كأنه يعرفك منذ زمن بعيد.
شخصيته ودودة متواضعة، تختلف كثيرًا عن د. التجاني سيسي، وعلي الحاج، والحاج آدم يوسف. وفي الكرم والسخاء لا يُضاهيه من قيادات دارفور إلا بشارة سليمان في العدل والمساواة، والمهندس آدم الطاهر حمدون الذي غاب عن الساحة منذ سنوات.

استطاع مناوي وهو في القصر أن يتواصل سياسيًا مع الحركة الشعبية بقيادة سلفاكير ميارديت، ومع الصادق المهدي، وحزب الأمة، والمؤتمر السوداني. وخاض معارك داخلية مع صلاح قوش ونافع علي نافع، ثم خرج من تجربة الإنقاذ عبر الباب الخلفي، ليعود مجددًا إلى ميادين القتال، ولكن ليس إلى “كارنوي” و”فوراوية”، إذ تمدد من “قريضة” في جنوب دارفور إلى “برام” و”دونكي البعاشيم” و”عين فرح” و”عين سيرو”.

وفي معاركه السياسية، كسب بعض الحلفاء وخسر آخرين، ونسج خيوط علاقات خارجية لم ينسجها من قبله سوى جون قرنق، إذ كان مناوي أول من دخل الكونغرس الأمريكي وخاطبه بقضية دارفور التي جعل منها قضية عالمية، مستغلًا منابر الإعلام والمنظمات والمحاكم الدولية التي لاحقت مسؤولين في نظام الإنقاذ.

شارك في تلك “الحرب الناعمة” إلى جانب حركة العدل والمساواة ومثقفين من أبناء دارفور، وكان أثرها أبلغ من السلاح.
لكن لاحقًا أدرك مناوي أن التعاطف الغربي الذي حظي به كان تعاطفًا كاذبًا، وخير شاهد ما يحدث اليوم من دعم الغرب للجنجويد في قتل سكان دارفور.

3
في مفاوضات أديس أبابا عام 2017، فاجأ مناوي الحضور في فندق “راديسون بلو”، وفي وجود أمبيكي ونائبه النيجيري، بخطاب سياسي متقدم وواقعي فاق خطاب الإمام الصادق المهدي نفسه.
كادت المفاوضات تصل إلى اتفاق بين حكومة الإنقاذ وتحالف “نداء السودان” الذي ضم حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة، والمؤتمر السوداني، وحزب الأمة، وحزب البعث، والحركة الشعبية بقيادة الحلو، لولا أن البشير أرسل جنرالين في وفده – الفريق عماد عدوي واللواء أمن دخري الزمان عمر – لإفشال أي تسوية، سعيًا لضمان بقائه حتى عام 2025.

منذ تلك اللحظة، أدرك كثيرون أن الإنقاذ فقدت مبررات وجودها، وأن سقوطها حتمي. وبعد سقوطها وصعود حكومة حمدوك، لم يصمت مناوي على أخطائها، فشكّل تحالفًا سياسيًا أكثر فاعلية واتصالًا بالجماهير، ضم التوم هجو، الناظر ترك، جبريل إبراهيم، مبارك أردول، عسكوري، ومن ورائهم حميدتي والبرهان، لإسقاط حكومة حمدوك فيما عُرف بانقلاب أكتوبر.

وحين عادت “الحرية والتغيير” باتفاق إطاري، أبدى مناوي تحفظه الشديد على بعض بنوده، خاصة ما يتصل بالمؤسسة العسكرية.
وقف حينها موقف “الحياد”، لكنه في الواقع كان ينظم صفوف جيشه استعدادًا لحرب طويلة مع خصوم يعرفهم جيدًا.

كان إعلان مناوي وجبريل دخول الحرب إلى صف القوات المسلحة دفعة معنوية كبيرة للجيش، وموقفًا سياسيًا ذا وزن، إذ كان السياسي الوحيد الذي يتفاعل مع الأحداث بلغة العصر، معلقًا على الوقائع يوميًا بصوت مرتفع في وقت اختار فيه الآخرون الصمت.
وحين تغرّد يوم الجمعة احتفاءً بانتصار القوات المسلحة والمقاومة الشعبية في الفاشر، كانت كلماته بمثابة رفعٍ للمعنويات ومقارعة إعلامية حقيقية للميليشيا وداعميها.

4

أيُّ مستقبل ينتظر مني أركو مناوي إذا اتجهت البلاد إلى استحقاق شعبي ونظام ديمقراطي تعددي؟

من المؤكد أنه إذا نجح في إعادة ترتيب بيته الداخلي وجمع شتات الحركات التي انسلخت من الحركة الأم، وتقارب مع حركة العدل والمساواة في تنسيق انتخابي، فلن يخرج مناوي من السباق الانتخابي إلا بنصيب وافر في البرلمان القادم.

صحيح أنه لن ينافس في الشمالية ونهر النيل وكسلا، لكن لحركته وجود في القضارف والجزيرة والخرطوم وكردفان، إضافة إلى دارفور.
غير أن حركة تحرير السودان فشلت حتى الآن في تحويل عطائها القتالي في “معركة الكرامة” إلى مكسب سياسي ملموس، وهذه ليست دعوة للاستثمار في الدماء التي بُذلت، ولكن تلك التضحيات الكبرى لا ينبغي أن تُهدر سياسيًا.

وحين تأتي الانتخابات، لا يصح أن تترك الحركة الساحة لأحزاب ظلت تدعم الجنجويد مثل حزب الأمة بقيادة فضل الله برمة.
وربما تحقق الحركة، إذا انتقلت من الحالة الثورية إلى المدنية وانفتحت اجتماعيًا على مكونات خارج غرب السودان، تقدمًا سياسيًا في أي انتقال ديمقراطي قادم.

لكن يبقى السؤال: هل يعود المنشقون إلى بيتهم الكبير؟
لقد حقق المنشقون مكاسب كبيرة، وأصبح اثنان منهم أعضاء في مجلس السيادة، وهو ما لم يكن ليحدث لو ظلت الحركة موحدة.
غير أن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة تتطلب عودة الجميع إلى البيت الكبير تحت القيادة التاريخية للحركة، بعيدًا عن الشعارات الفضفاضة مثل الشفافية والشورى والديمقراطية وحكم المؤسسات.

فالحركات الثورية تعتبر قائدها – في زمن الحرب والمعارك – هو المؤسسة العليا.
لكن الانتقال من الحركة الثورية إلى الحزب السياسي له شروطه ومعاييره.

فهل يعود الطاهر حجر، والريح محمود، وعبد الواحد محمد نور، وصلاح رصاص، وعبد الله يحيى إلى قيادة مني أركو مناوي؟