لماذا لا يستثمر الدكتور كامل إدريس رئيس الوزراء، الفرصة السياسية المتاحة الان؟، لإعادة صياغة موقع السودان في المشهدين الإقليمي والدولي، عبر توظيف الضغط السياسي والإعلامي والدبلوماسي لإخراج البلاد من الحرب وتصنيف ميليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية.
تبدو الحاجة ملحّة ليطلق إدريس مبادرة شاملة تحت اسم “مبادرة السلام واستعادة الأمن”، تُقدَّم كخيار سوداني خالص يوازي مبادرات الهدنة المطروحة، وتُعرض على عدد من الدول ذات المواقف المتوازنة مثل الصين وروسيا وتركيا وباكستان ومصر والسعودية والجزائر وقطر.
تقوم المبادرة على وقف القتال بانسحاب المتمردين من دارفور وكردفان وتنفيذ اتفاق جدة ووقف الدعم الخارجي للمليشيا، تمهيدًا لـحلٍّ سياسي شامل يمضي بالتوازي مع الترتيبات الأمنية، يعالج جذور الأزمة على غرار التسوية السياسية ما بعد ثورة 21 أكتوبر 1964، بما يُعيد المبادرة للداخل ويُنهي احتكار الخارج لخطاب السلام الزائف .
ولتحقيق ذلك يتعيّن على رئيس الوزراء تبنّي رؤية سياسية متكاملة تستند إلى فهمٍ عميق لتوازنات الداخل ومعادلات القوى الإقليمية والدولية، بعدما أظهرت التجربة الماضية ضعف السياسة الخارجية وتردد مواقفها وغياب الرؤية، مما حال دون بناء تحالفات منتجة تعبّر عن مصالح الدولة وأمنها
إن الانشغال بمحاولة كسب رضا الغرب، دون تنويع الشراكات باتجاه القوى الصاعدة كالصين وروسيا وتركيا ، أفقد السودان فرصًا استراتيجية كان يمكن أن تُشكّل درعًا دبلوماسيةً تحميه من الضغوط الخارجية.
فالتحالفات الدولية تعتبر حسابات مصالح. فتركيا مثلًا نجحت في الجمع بين عضويتها في حلف الناتو وعلاقاتها المتينة مع روسيا والصين، بينما انتهجت الهند سياسةً متعددة الأقطاب سمحت لها بالتعاون مع القوى الكبرى كافة دون التفريط في استقلالها. كذلك المملكة العربية السعودية وقطر.
فيما قدّمت إثيوبيا وجنوب أفريقيا ورواندا في القارة السمراء نماذج ناجحة لإدارة التوازن بين الشرق والغرب دون التفريط في القرار الوطني.
أما السودان، فما زال أسيرًا لذهنية الحرب الباردة، يميل إلى الاصطفاف مع محورٍ واحد، في وقتٍ تتجه فيه معظم الدول إلى سياساتٍ مرنةٍ ومتعددة الأقطاب. هذا الخلل أضعف الموقف السوداني دوليًا، وترك البلاد بلا مظلةٍ قادرة على حمايتها من الابتزاز السياسي والإعلامي.
وفي الجانب القانوني، فتحت الجرائم المروعة في مدينة الفاشر نافذةً يمكن استثمارها بذكاءٍ سياسي. فبيان مجلس الأمن و مكتب الادعاء بالمحكمة الجنائية الدولية حول جرائم الدعم السريع يمثل فرصة استراتيجية للحكومة السودانية لتوظيف القانون الدولي كأداة ضغطٍ فعالة يمكنها استغلالها.
لكن تحويل هذه الإدانة إلى مسارٍ قضائي ضد داعمي المليشيا، خصوصًا من خارج السودان، يتطلب عملًا قانونيًا منظمًا وموثّقًا، يتضمّن ملفات تحتوي على أسماء، وشركات، وأدلة تمويل وتسليح. وإذا بادرت المؤسسات العدلية السودانية إلى تقديم هذه الملفات، فقد تُفتح بذلك تحقيقات لإدانة المليشيا وداعميها الاقليمين ومن ثم تصنيفها كمنظمة ارهابية.
تفتقر الحكومة السودانية إلى أدوات تواصل رقمية فعّالة حساب في” منصة اكس” مثلا لرئيس الوزراء ومجلس السيادة، مما يضعف حضورها في الفضاء الإعلامي الذي تُدار فيه المعارك السياسية اليوم. هذا الغياب يفتح الباب أمام الإشاعات ويُضعف سردية الدولة أمام الرأي العام الدولي. فالحرب الحالية كشفت حاجة السودان إلى قوة سياسية ودبلوماسية تُوازي تفوقه العسكري، إذ ما تزال بلادنا ضعيفة في الخطاب والسياسة.
تمكّن الجيش السوداني من منع انهيار الدولة، غير أن غياب الخطاب الرسمي الفاعل في الساحة الدولية أتاح للآخرين فرصة تشويه الصورة وفرض سرديات مضللة. ومع أن الحضور الدبلوماسي بدأ يتعافى مؤخرًا، إلا أن الضغوط على السودان ما تزال قائمة دون محاسبة حقيقية للميليشيا المتسببة في الحرب. لذا، على “حكومة الأمل” أن تُبرهن أنها مشروع وطني لإعادة بناء الدولة برؤية واضحة، لا مجرد إدارة ظرفية للأزمة.
التحرك المطلوب اليوم ليس استقبال الوفود والعمل الاجتماعي ، بل في تأسيس دبلوماسية حربٍ قادرةٍ على تحويل ضغط الميدان إلى ورقة سياسية. هذه الدبلوماسية ينبغي أن تقوم على ركائز رئيسية:
أولًا: يجب إعادة تعريف الصراع دوليًا باعتباره حربَ دولةٍ ضد ميليشيا متمردة مدعومة خارجيًا، لا نزاعًا أهليًا بين طرفين متكافئين، فذلك يشكل المدخل القانوني والسياسي الذي يعيد تموضع السودان دوليًا ويتيح تحريك ملفات المساءلة ضد ممولي الحرب ومرتكبي جرائمها.
ثانيا :ما جرى في الفاشر يجب ألا يُترك للتقارير الحقوقية فقط، بل يُترجم إلى ملفاتٍ موثقةٍ تُقدَّم رسميًا إلى مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية، والمنظمات الإقليمية ليصبح القانون سلاح ردعٍ سياسي لا مجرد أداة إدانة.
الثالث، وهو الأهم: إعادة بناء التحالفات الخارجية على أساس التوازن والمصلحة الوطنية، إذ إن الارتهان لمحور واحد أو انتظار المواقف الغربية خطأ استراتيجي . ينبغي أن تنفتح السياسة السودانية على القوى الصاعدة كالصين وروسيا وتركيا وماليزيا ، مع تعزيز الروابط العربية والإفريقية.
دبلوماسية الحرب ليست تبريراً للعنف بل توظيف للعقل المبدع، الدولة التي تحارب بلا خطاب تهدر قوتها، والتي توحّد بين البندقية والسياسة تكتب مستقبلها. نجاح الحكومة في مزج القوة العسكرية بالحضور السياسي والضغط الإعلامي سيحوّل الأزمة إلى نقطة انطلاق نحو سياسة خارجية فاعلة ، وقد بدا السفراء بالخارج الأسبوع الماضي تحركا متأخر لرسم خريطة المقاومة عبر المؤتمرات الصحفية لنصرة الوطن، لذا يجب مواصلة هذا الدفع بنفس الوتيرة ليصحو ضمير العالم وتنتزاع الحقوق.
وفقًا لـ #وجه_الحقيقة، فإن السودان يحتاج إلى قيادةٍ منتبهة تمتلك رؤيةً استراتيجيةً ، تجمع بين الحزم وحسن التدبير والذكاء الدبلوماسي، وتستثمر القانون الدولي والإعلام العالمي لحماية السيادة وترسيخ الشرعية.
دمتم بخيرٍ وعافية.
الثلاثاء 4 نوفمبر 2025م     Shglawi55@gmail.com
