في الوقت الذي يتجاوز فيه العالم الحديث عن مظاهر الاستعمار التقليدي، عادت أشكال جديدة ،أكثر خفاءً عرفت بالهيمنة الناعمة. لتطل برأسها تحت عباءة “الدعم الدولي”، متخذة من الأزمات الداخلية نافذة للتدخل وصياغة التوازنات الجديدة على حساب السيادة والإرادة الوطنية.
السودان اليوم في قلب هذا التحدي لإعادة إنتاج نظام إقليمي ودولي يعيد تعريف الدولة الهشة بوصفها وظيفة لا ذاتًا، تابعة منقادة لا فاعلة ذات سيادة. ومن هنا، فإن دور الرباعية الدولية – الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، والإمارات – لا يمكن قراءته بمعزل عن ذلك فهي ليست “وساطة سياسية”، بل أداة هندسة استراتيجية للبلاد والمنطقة، تعيد هذه الدول من خلالها ضبط توازن القوة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، بما بتوافق مع مصالحها .
منذ سقوط نظام عمر البشير عام 2019، دخل السودان مرحلة كان يمكن أن تكون تأسيسية لدولة مدنية ديمقراطية، لو تُركت لتنضج في سياقها الوطني. لكن القوى الإقليمية و الدولية سارعت إلى ملء الفراغ ، استباقًا لأي مسار قد يخرج عن السيطرة أو لا يضمن مصالحها الاستراتيجية.
وهكذا تحوّلت العملية الانتقالية إلى “عملية مراقبة”، توزعت أدوارها بين دعم سياسي معلن ودعم عسكري غير مباشر، كما فعلت الإمارات مع مليشيا الدعم السريع، ما فجّر الحرب وعطّل المسار السياسي برمّته.
التحليل السياسي الواقعي يقتضي قراءة المصالح قبل الشعارات. فالسودان بموقعه الجغرافي وموارده الهائلة وحدوده الطويلة وتحكمه بمفاصل مائية وممرات دولية فاعلة ، يمثل ركيزة في مشروع إعادة هندسة الإقليم.
لذلك فإن “الاستقرار” الذي تسعى إليه الرباعية ليس هدفًا وطنيًا ، بل استقرارا وظيفيا يُبقي البلاد ضمن دائرة السيطرة و التبعية ، دون أن يسمح لها بأن تصبح نموذجًا سياسيًا حرًا يعيد إحياء خطابات التحرر الوطني أو التقارب الإقليمي المستقل.
تتجلى “الهيمنة الناعمة” كما وصفها أنطونيو غرامشي، حين تُمارس السيطرة لا بالقوة بل بالرضا، عبر تحويل النخب المحلية إلى أدوات تنفيذ لأجندات خارجية تحت مبررات “دعم الانتقال”. وهنا سقطت “قوى الحرية والتغيير” في فخ التبعية والارتهان ، كما كشف الرشيد سعيد للتلفزيون الفرنسي حين صرّح بأن مشروعهم ليبرالي في مواجهة القوى الإسلامية.
الخطورة لا تكمن في التمويل وحده، بل في الهيمنة الثقافية، أي في إعادة صياغة المفاهيم ذاتها – كالديمقراطية والسيادة والشرعية – بما يتوافق مع النظام الدولي لا مع الإرادة الوطنية. فتصبح الديمقراطية مساومة لا استحقاقًا، والسيادة مرهونة لا مطلقة، والإجماع الشعبي مستبدلًا بـ”توافق خارجي”.
السودان هنا لا يختلف كثيرًا عن الجزائر، التي رفضت أي وصاية دولية خلال حراكها في 2019، وتمسكت بأن يكون الحل داخليًا خالصًا. هذه الاستقلالية لم تأتِ من فراغ، بل من قناعة راسخة بأن القرار الوطني لا يُشترى بالدعم الخارجي، بل يُصان بالإرادة الواعية، وقد نجحت في ذلك.
وهذا ما يفتقده السودان اليوم: نخبة سياسية موحّدة تدرك أن الاستقلال يبدأ من الداخل. فالصراعات الصفرية بين القوى السياسية والعسكرية، وتناقضات النخب وعجزها ، فتح الباب أمام الخارج ليصبح الوسيط والمقرر في آنٍ واحد.
ورغم أن قطع العلاقات مع الإمارات وتصنيفها كدولة عدوان في مايو 2025 يعكس بداية استعادة للقرار الوطني، إلا أن الطريق لا يزال طويلًا نحو بناء سياسة خارجية ندّية. المطلوب ليس القطيعة بل التفاوض من موقع المصلحة الوطنية، وتحرير مؤسسات الدولة من الارتهان للإرادة الدولية، بدءًا من تقليص نفوذ السفارات وتحركاتها داخل البلاد دون رقيب.
فالفلسفة السياسية منذ لوك وروسو وهيغل، شددت على أن الدولة تجسيد لإرادة الأمة. وإذا فشلت هذه الإرادة في التعبير عن نفسها بحرية، فإن الدولة تتحول إلى غلاف فارغ تُملؤه القوى الأجنبية بمضامينها واجندتها.
إن الخروج من الأزمة السودانية الآن، لا يبدأ من العواصم الأجنبية، بل من مدن السودان ذاتها؛ من الخرطوم ومدني ودارفور والنيل الأزرق، حيث تتشكل الإرادة الحقيقية بعيدًا عن المؤتمرات المغلقة. هذه اللحظة اختبار تاريخي لمفهوم السيادة، ليس فقط كقدرة على الصمود، بل كقدرة على البناء. فـ”السيادة لا تُرفع في الخطب، بل تُترجم في دستور وطني جامع، وقرار مستقل، وعقد سياسي يُصاغ في الداخل بإرادة سودانية خالصة”.
بحسب #وجه_الحقيقة فإن الأزمة السودانية اليوم تكشف أن الخطر لم يعد في الاستعمار الصريح، بل في الهيمنة الناعمة وصناعة التبعية، حيث تجري محاولات إعادة صياغة القرار الوطني بما يخدم مصالح الخارج. ولا مخرج من ذلك إلا بإرادة وطنية حرة صادقة تؤسس لمشروع وطني جامع ، وتنبذ كل أشكال الوصاية الدولية المقنّعة.
دمتم بخير وعافية .
الاثنين 20 أكتوبر 2025م Shglawi55@gmail.com