هيبة الدولة تعود مع خروج التمرد من الخرطوم السيادية

بروفيسور صلاح محمد إبراهيم
استطاعت القوات المسلحة أن تفشل مخطط تغيير تركيبة الدولة السودانية سياسياً وديمقرافياً منذ أول يوم في الحرب في 15 أبريل 2023 من خلال معركة القيادة العامة ، على الرغم من عنصر الغدر والتفوق العددي للتمرد مقارنة بقوات الجيش الموجودة في قلب الخرطوم ومقر القيادات المختلفة . وبثبات وتخطيط وصبر استطاعت قيادة الجيش أن تصد التمرد وتفشل مخطط الاستيلاء على السلطة من قبل القوات المتمردة وبدأت مرحلة الهجوم بإستخدام الطيران ثم العمليات الخاصة على الرغم من تمدد التمرد في مواقع مدنية وشوارع الخرطوم ثم بعد ذلك خارج الخرطوم، وهو أمر في اعتقادي لا يسبب قلقاً لقيادات القوات المسلحة التي ظلت تتعامل مع حركات التمرد منذ ما قبل اعلان الاستقلال في عام 1965 ، وهي لها تجربة كبيرة عبر السنوات في كيفية مكافحة التمرد على الدولة بالعمل المسلح سواء كان ذلك في جنوب السودان أو دارفور، وهي عمليات ظلت بعيدة عن المركز في الخرطوم التي تمثل رمز سيادة الدولة وسيطرتها في نظر السودانيين والعالم .
الخرطوم عموم ظلت تمثل درجة قوة ومنعة وتماسك الدولة السودانية منذ عثمان جركس ( البرنجي) الذي نقل العاصمة من سنار إليها في حوالي عام 1825 في عصر محمد على باشا، وظلت كذلك مع قدوم غردون وكتشنر والزعيم الأزهري إلى يومنا هذا ، لذلك يظل استقرار الحكم والدولة السودانية وأمانها وصمودها مرتبطاُ بالخرطوم والأمر كذلك في ظل الحرب الحالية مهما كان حجم الانتصارات التي تحققها القوات المسلحة كل يوم ببسالة وشجاعة .
استطاعات القوات المسلحة أن تخرج التمرد من مساحات واسعة من أمدرمان ولم يتبقى إلا اماكن طرفية لم تعد تشكل خطراً كبيراً وسوف تتلاشي مع الأيام ، ولكن يظل حلم العودة لدي معظم السودانيين معلقاُ بالمركز السيادي للدولة السودانية الذي به المقر الرئاسي وبقية المواقع السيادية الأخرى وأحيائها التاريخية في الخرطوم عموم وامتداداتها الجديدة من الخرطوم 3و2 و1، والعمارات وأحياء شرق المطار في امتداد ناصر والمنشية والرياض والطائف والمعمورة ، وفي اعتقادي أن حلم العودة إلى الخرطوم الكبري يظل مرتبطاً ويبداً مع طرد التمرد من وسط الخرطوم السيادية كمقر للدولة بمختلف محلياتها المختلفة حتى جبل الأولياء.
لقد ظل هناك تقاعس وتجاهل استمر لسنوات طويلة في التعامل مع المهددات الأمنية في منطقة وسط الخرطوم السيادية والتي كانت تعرف بالخرطوم عموم و تمتد بين النيل شمالاً والسكة الحديد جنوباً وبين غابة السنط غرباً وجسر بري شرقاً وحول حرم القيادة العامة ومطار الخرطوم الدولي، و سبق أن حذرنا من قبل في العديد من المقالات في صحف مختلفة خلال فترة ولاة الخرطوم المختلفين وإلى ما قبل الحرب الحالية بفترة وجيزة أن انتبهوا إلى ما يحدث من فوضى في منطقة الخرطوم عموم في كل شوارعها بين شوارع المك نمر والقصر وحتى شوارع عبد المنعم و الحرية وصالح باشا المك وعلى عبد اللطيف غرباً ثم منطقة السوق العربي وشارع السيد عبد الرحمن وسوق الذهب ، وقلنا أن ما يحدث في ميداني جاكسون والاستاد من مظاهر التسيب والتعدي على القانون وحرمة الطريق والخليط من البشر من الأجانب الذين لا يحملون وثائثق ثبوتية يشجع على انتهاك أمن الدولة واستقرارها واختطافها ويغري بالفوضى ، ولكن رجال الدولة والحكم في السودان ظلوا مشغولين كعادتهم بالصراعات السياسية الداخلية التي تحافظ على كراسي الحكم والاتكاء على ما يعرف ( يبقى الحال على ما هو عليه) على الرغم من الخطر الواضح الداهم الظاهر للعيون في الشارع وكانت النتيجة كما قالوا حدث ما حدث.
لا شك أن ما تحقق في أمدرمان نصر كبير ، ولكن يبقى الأثر النقسي لهزيمة التمرد في خرطوم ما بين النيلين هو الانتصار الحقيقي ومع تقديرنا لجهود القادة العسكريين الذين ربما نختلف معهم في الأولويات مع ضعف المامنا بالخطط وتقديرات موقفهم العملياتي ، إلا أننا هنا نتحث جوانب نفسية لها علاقة بالحديث المتكرر عن العودة وجوانب سياسية لها ابعاد دبلوماسية وتاثيرها على الرأي العام الداخلي وأيضاً العالمي، فالخرطوم هي مقر القيادة العامة للقوات المسلحة التي كسرت فيها قوة التمرد منذ اللحظة الأولى، وهي القصر الجمهوري وهي مطار الخرطوم الدولي وهي مقر سكن معظم رموز الحركة الوطنية التاريخيين وأهم رجال الخدمة المدنية و مقر حاكم الخرطوم ( الوالي) والدبلوماسيين الأجانب وهي مقر المنظمات الدولية ، لذلك لابد من اعادة تقدير المواقف العسكرية والعملياتية مع تقديرنا لكل ما تحقق من نجاح ببسالة وشجاعة .
من الواضح أن التمرد يستفيد من الحالة المتأرجة في الخرطوم بالترويج لعملياته عبر القنوات الفضائية العربية ومحاولة منازعة الحكومة في شرعيتها وهو أمر يتوافق مع بعض الأجندة الخارجية التي توصف الصراع بأنه نزاع بين طرفين وليس كتمرد على الدولة ، وهو أمر لا يخفى على السودانيين ، ويؤسفني أن بعض الكتاب والاعلاميين السودانيين ظلوا يستخدمون في بعض القنوات مصطلح الطرفين بهدف جني مكاسب مادية عبر بعض القنوات، على الرغم من أنه مصطلح صنعته قوى خارجية لأغراض سياسية للنيل من الجيش الوطني الذي ظلت كل مؤتمرات القمة العربية من الرياض إلى المنامة تطالب بالحفاظ عليه بإعتباره مؤسسة وطنية .
لابد من استعادة هيبة الدولة والسلطة في الخرطوم بإخراج التمرد من المقرات السيادية وكل منطقة ما بين النيلين ، ولتكن نلك ضربة البداية للتحرك في كل شرق النيل لكل الأسباب التي ذكرناها ، لأن ذلك يعزز ثقة المواطنين والعالم في السلطة القائمة ، كما يساعد على نشر الاحباط وتفكيك القوة المتمردة أو استسلام ما تبقى منها، وهو يفسد كل المساعي التي يقوم بها الداعمون للتمرد من البعض وغيرهم في الداخل والخارج، ويفسح المجال لتعامل العالم مع الحكومة بصورة جادة ويقلل من مخاطر التدخل في الشأن السوداني والمساعي الدولية الخبيثة خاصة تلك التي تقوم بها بربطانبا في مجلس الأمن بين فترة وأخرى .
يجب أن لا ينظر لعملية تحرير الخرطوم السيادية بإعتبارها استعجال للإنتصار ، ولكن بإعتبارها عملية ذات أولوية سياسية وعسكرية لها تبعات سوف تنعكس ايجابباً على علاقة الحكومة بالعالم الخارجي وتعزز من احترام المجتمع الدولي لقيادة الحكومة الحالية، خاصة الذين يتخذون من وجود الحكومة في مقرها المؤقت في بورتسودان ذربعة لعدم الأجتماع بها مثل المبعوث الأميركي بيرليو وسامنتا بور مديرة المعونة الأميركية وغيرهم من بعض دول الاتحاد الأوروبي.