تصريحات ترامب حول مشروع الترانسفير القديم المتجدد ( ترحيل الفلسطينيين خارج أرضهم ) يجب قراءتها بشكل مهم و و بنظرة شاملة لمزيد من التعرف على التصورات المتباينة للأمريكان حول وضع إسرائيل في المنطقة ، صحيح أن هناك جزء مقدر من الأمريكان المتعاطفين مع الحركة الصه*يونية و يؤمنون بوجود وطن لليهود على أرض فلسطين و هؤلاء يعملون على أن تتسيد إسرائيل هذه الأرض بسلطانها و يدعمونها في ذلك ، و ظل هذا الجزء هو الذي يتراءى لنا و يظهر و نجتهد في مقاومته .
و لكن الجزء الأكبر و المهم في أمريكا هو الذي ينظر لإسرائيل كوكيل أو أداة لتنفيذ الإستراتيجيات الأمريكية في أهم منطقة صراع في العالم و هي منطقة الشرق الأوسط التي تعد قلب العالم و ملتقى طرقه و مركز تجارته و إشعاعه الحضاري و لذلك يعمل هذا الجزء إلى تمرير سياسات هيمنته مستغلا وضع إسرائيل ، و لذلك علينا أن نفرق بين النموذجين فالأول عقدي متزمت أعمى و الثاني براغماتي إستعماري متسلط .
أثبتت الأحداث بعد السابع المنصور من أكتوبر أن إسرائيل بمفهوم أنها دولة لليهود غير قادرة على البقاء فهي قاربت أن تنهار تحت الصدمات و صار لدى الكثيرين من سكانها و داعميها قناعات راسخة أن تكلفة بقاءهم على أرض فلسطين أكبر من تكلفة بقائهم على الأرض و بالتالي إختاروا أن يفروا الى بلدان أخرى و يؤسسوا نماذج جديدة للحياة بدل الفناء على أرض فلسطين ، و هذا وضع التيار الإستعماري أمام خيارين مرين فهو إما يدفع بالفلسطينيين خارج أرضهم لبقاء الدولة اليهودية أهم أدوات سياسته الخارجية ، أو أن يقبل بيهود الشتات يؤسسون مستوطنات جديدة داخل الأراضي الأمريكية و الأوروبية و القبول بالمشاكل الجديدة التي ينتجونها .
النموذج الإستعماري ينظر إلى الدولة التي يجب أن تكون موجودة في أرض فلسطين بأنها أداته لتنفيذ سياساته الخارجية في المنطقة لضمان تأخر المنطقة حضاريا و إغراقها في المشاكل و الجهل و الصراع و لضمان التحكم في التجارة و النفط و الموارد و التأثير على القارات التي تطل عليها المنطقة ، و الوضع القائم أن يتولى اليهود هذه المهمة و لكن حال فشل اليهود فيها هل سيستسلم النموذج الإستعماري ؟ قطعا لأ ، بل سيتدخل مباشرة بأدواته الإستعمارية الكولنيالية و هذا ما قاله ترامب بأنه غزة ستكون سكنا لأناس من كل العالم و أنها ستكون ريفيرا العالم و هذا يعني أن أمريكا بنفسها هي من ستحتل غزة و فلسطين .
هذا التصور سيتجاوز مفهوم التطبيع مع إسرائيل إلى مفهوم التطبيع مع الإستعمار الإستيطاني الأمريكي لمناطق الصراع الجيوإستراتيجي في العالم ، و هذا الوضع يعني مباشرة عدم جدوى اتفاقيات التطبيع القديمة و تفجير المنطقة عبر خلق صراعات جديدة مع دول و مجتمعات كانت مهادنة للإحتلال الإسرائيلي مثل الأردن و مصر ، و إعادة تعريف الصراع في المنطقة على ضوء هذه الأسس الجديدة .
يعد الوضع الإستعماري الجديد لغزة نموذجا غير شائع في قواميسنا فهو لا يشبه إحتلال دولة لدولة فيقاومه شعب الدولة المحتلة و ما تبقى من مؤسسات دولتها مثل ما حدث من مقاومة الإحتلال الأمريكي للعراق و أفغانستان ، و لا يشبه الإستعمار الإستطياني القديم الذي يحل أمة مكان أمة مثل كان مراد أن يحدث من خلال الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ، بل يعني أن يحل بشر بدون هوية ، شتات من كل العالم مع ضرب الهوية الفلسطينية و تشتيتها في العالم ، و هذا نموذج خطير جدا .
هذا تطور خطير في أدوات الصراع البشري و الذي تجاوز سلخ الروح من الجسد إلى سلخ الإنسان من مكنونه و قيمه و مجتمعه ، و أدواته التفسخ و الإنحلال الهوياتي و القضاء على تأريخانية الأشياء مقابل مصالح القوى الكبرى ، و تتصاغر إسرائيل هنا إلى مجرد أداة لهذا المشروع ، و هذا المشروع ظل مجترحا بأدوات أخرى كما أعلنه نتنياهو في سبتمبر 2023 في الجمعية العامة الأمم المتحدة ، و عندما فشلت أدواته القديمة ، يحاول ترامب إعادته بأدوات جديدة مبتذلة غاية في البشاعة .
هذا المشروع عين ما كان سيحدث في السودان بعد 15 أبريل بتخطيط غربي و قد أوقفه فضل الله تعالى علينا ثم صمود الأمة السودانية و جيشها ثم صمود غز*ة نفسها بعد 7 أكتوبر فقد كانت تقاتل عنا ، و فككت أدوات كثيرة كان يمكن أن تستخدم ضدنا ، و المشروع تجاهنا لم يتبدد و سيعاود الكرة لأننا نقبع في منطقة لا تقل أهمية عن فلسطين و حسب المفهوم الإستعماري يجب أن يكون في أرض السودان شعب منسلخ عن هويته بدلا من صاحب حضارة السبعة آلاف عام ، و لذلك مثلما قاومنا التطبيع مع إسرائيل و قاومنا الإحتلال الإسرائيلي سنقاوم النماذج الجديدة من المنطلقين العقدي و التحرري .
عزيزي ترامب
مرحبا بك في الجحيم.
