..
ما وراء الطرد والتصعيد؟
حينما تعلن تشاد عن طرد البعثة الدبلوماسية السودانية خلال 72 ساعة، وحينما تصدر جوبا تصريحات متشنجة ردًا على كشف السودان لدورها في دعم التمرد، فإن الأمر يتجاوز كونه مجرد رد فعل سياسي عابر. هذه التحركات ليست سوى انعكاس لارتباك إقليمي متصاعد، يكشف عن محاولات دول الجوار السوداني لإعادة تموضعها وفق متغيرات الميدان، بعد أن بدأت معادلة الصراع تتغير على الأرض.
إنها ليست مجرد أزمة دبلوماسية، بل لحظة فارقة في إعادة تعريف السودان لمكانته الإقليمية. فكيف نقرأ هذه التطورات؟ وما الذي يعنيه هذا التصعيد لمستقبل علاقات السودان بجيرانه؟ والأهم، كيف يمكن للخرطوم أن توظف هذه اللحظة لصالحها في معركة النفوذ الا
تشاد وجنوب السودان – هل هو دفاع أم محاولة هروب إلى الأمام؟
١. تشاد – المأزق الأمني وحسابات الداخل:
قرار الحكومة التشادية طرد الدبلوماسيين السودانيين يعكس محاولة لاحتواء تداعيات الانكشاف السياسي بعد أن بدأت الخرطوم تفضح علنًا دور أنجمينا في دعم المليشيات المتمردة. فمنذ بداية الحرب، كانت الحدود التشادية بمثابة شريان حياة للدعم السريع، تمر عبره الإمدادات والأسلحة والمرتزقة، في ظل صمت دبلوماسي سوداني بدا للكثيرين وكأنه ضعف، لكنه كان في الواقع تكتيكًا مقصودًا لإدارة الصراع على مراحل.
لكن لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الحدة؟
تشاد ليست فقط في موقع المتورط، بل هي أيضًا في موقع الخائف. نظام محمد إدريس ديبي يعاني من اضطرابات داخلية متزايدة، ويدرك أن موقفه المتذبذب بين دعم التمرد السوداني والحفاظ على استقرار بلاده قد يتحول إلى قنبلة موقوتة، خاصة في ظل التوترات القبلية داخل تشاد نفسها. الطرد الدبلوماسي هو إذن محاولة يائسة لرسم خط أحمر ضد الخرطوم، لكنه قد يكون خطوة في الاتجاه الخاطئ، خاصة إذا قررت السودان أن ترد بالمثل أو أن تلعب أوراقها الخفية.
٢. جنوب السودان – الدبلوماسية المزدوجة والخطاب المتناقض
أما موقف جوبا، فهو استمرار لنهج المراوغة السياسية الذي اتبعته منذ بداية الأزمة. على الورق، تدّعي جنوب السودان أنها وسيط للسلام، بينما على الأرض، كانت توفر دعمًا خفيًا للمليشيات المتمردة، مستغلة تعقيدات الحدود والمصالح المتداخلة.
تصريحات الفريق أول ياسر العطا الأخيرة وضعت حكومة جوبا في مواجهة مباشرة مع الحقائق، مما اضطرها إلى إصدار ردود فعل متشنجة، في محاولة لامتصاص تداعيات الفضيحة السياسية. لكنها، وكما تشاد، تواجه معضلة خطيرة: هل تستمر في نهجها الحالي، مخاطرةً بتدهور علاقاتها مع الخرطوم؟ أم أنها ستتراجع وتحاول إعادة ضبط إيقاع علاقتها بالسودان، خاصة وأن مصيرها الاقتصادي يعتمد بشكل كبير على النفط الذي يمر عبر الأراضي السودانية؟
ثانيًا: ماذا يعني ذلك لمستقبل العلاقات الإقليمية؟
١. السودان يفرض قواعد جديدة للّعبة
في السابق، كان السودان يُعامل كطرف يُفرض عليه الواقع الإقليمي، لكن هذه الديناميكية بدأت تتغير. اليوم، الخرطوم لم تعد تكتفي برد الفعل، بل باتت لاعبًا يفرض معادلاته. الكشف العلني لدور الدول الداعمة للتمرد هو رسالة واضحة بأن زمن الصمت قد انتهى، وأن السودان الجديد يتجه إلى مرحلة أكثر صلابة في إدارة علاقاته الخارجية.
٢. التصعيد ليس نهاية الطريق – السودان يملك أوراق القوة
رغم أن التحركات التشادية والجنوب سودانية تبدو تصعيدية، إلا أنها ليست بالضرورة مقدمة لقطيعة دائمة. فالسودان لا يزال يمتلك أدوات ضغط فعالة:
●اقتصاديًا: تعتمد جوبا على تصدير نفطها عبر السودان، مما يمنح الخرطوم نفوذًا استراتيجيًا لا يمكن تجاهله.
●أمنيًا: لا تزال للسودان القدرة على التأثير في التوازنات الداخلية لكل من تشاد وجنوب السودان عبر دعم أو تحييد قوى معينة.
●دبلوماسيًا: يمكن للخرطوم إعادة صياغة تحالفاتها الإقليمية والدولية، مستغلة تعاظم دور القوى غير الغربية في المنطقة.
بالتالي، فإن هذه الأزمة قد تكون في الواقع فرصة للسودان لإعادة ضبط علاقاته الإقليمية وفق شروطه، لا وفق إملاءات الآخرين.
٣. هل تتدخل القوى الكبرى؟
لا يمكن عزل هذه التطورات عن المشهد الدولي. تشاد وجنوب السودان تتحركان ضمن فضاء النفوذ الفرنسي والأمريكي، في حين يسعى السودان لتعزيز شراكاته مع قوى مثل روسيا، الصين، وبعض دول الخليج. ومع تصاعد انكشاف التورط الإقليمي في دعم التمرد، قد نشهد محاولات دولية لإعادة احتواء الوضع، خاصة إذا شعرت القوى الكبرى أن التصعيد قد يهدد استقرار الإقليم بالكامل.
أصل القضية : السودان يُعيد رسم حدوده الدبلوماسية
ما يحدث الآن ليس مجرد خلاف سياسي عابر، بل لحظة تحوّل كبرى في علاقة السودان بجيرانه. القرارات التي ستتخذها الخرطوم في الأسابيع القادمة ستحدد ما إذا كان السودان سيظل مجرد ساحة صراع ض نفسه كرقم صعب لا يمكن تجاوزه.
أنجمينا وجوبا قد تكونان أول من يدفع ثمن رهانات خاطئة، لكن الرسالة الأهم تتجاوزهما بكثير: السودان الجديد لا يرضى بأن يكون في موقع الدفاع، بل أصبح لاعبًا يعيد رسم خارطة النفوذ في المنطقة. والأيام القادمة وحدها كفيلة بكشف أي اللاعبين يمتلك الجرأة للاستمرار في رهاناته، وأيهم سيسارع إلى تعديل مساره قبل أن يفقد موقعه تمامًا في معادلة التوازنات الإقليمية.