قلت في المقال السابق تحت ذات العنوان ان البنك المركزي اتخذ خطوة ذكية جدا بإطلاق محفظة تمويل السلع الاستراتيجية بالشراكة مع بنك الخرطوم .. لكن المؤكد ان هذه الخطوة لوحدها لن تكون كافية لوقف تدهور سعر الصرف مالم تتبعها خطوات واجراءات اخرى .. وحتى لا تكرر اخطاء المحفظة السابقة التي كانت تحت الإشراف المباشر لسيئ الذكر قائد المليشيا محمد حمدان دقلو.
بحسب البيان الذي صدر عند اطلاق محفظة تمويل السلع بين بنك السودان وبنك الخرطوم ، فان المحفظة التي يبلغ رأسمالها مليار دولار لتمويل استيراد السلع الاستراتيجية من مواد بترولية وقمح ودقيق ودواء تهدف إلى خفض الطلب على النقد الأجنبي من السوق الموازي . ومن ثم النزول بمعدلات التضخم . الخطوة الجيدة هنا انه وفي الوقت الحالي وطيلة فترة الحرب ظل استيراد هذه السلع وبالأخص المواد البترولية يتم بموارد نقد اجنبي من السوق السوداء ، ما أسهم إلى حد كبير في تدهور قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار.
من المعروف ان تكلفة استيراد المواد البترولية تشكل الطلب الأكبر على موارد النقد الاجنبي من السوق الموازي ، لذلك فان توفير هذه الموارد بواسطة المحفظة من شأنه ان يحيد هذا الطلب ويسهم نوعا ما في استقرار سعر الصرف.
برغم التحفظات لدى البعض غير ان تجربة المحفظة السابقة التي كانت تدار بواسطة بنك البركة السوداني أسهمت بشكل مقدر في استقرار سوق النقد الاجنبي رغم ما شابها من ضعف اداري وعدد من المشاكل تسببت في انهيارها .
لذلك من المهم جدا ان تتفادى محفظة بنك الخرطوم اخطاء التجربة السابقة والتي قادت إلى نتائج كارثية بسبب الأخطاء الإدارية والفنية والمحاسبية .
تجربة المحفظة السابقة تبدا من محاصرة حميدتي لها بصفته رئيسا للجنة الاقتصادية ، وسيطرة عبد الرحيم دقلو على كل تفاصيل الاجراءات عبر شركة الجنيد الشريك الأكبر للمحفظة مع عدد من البنوك وتجار الذهب وغيرهم من تركيبة المحفظة متباعدي الاهداف ، بعض من المساهمين في المحفظة هم في الأصل تجار ذهب لذلك كانوا يتحكمون في أسعار الذهب ويرفعون قيمته عند الشراء للتصدير ، فيما يباع بسعر ادني بحسب السعر في حينه في بورصة دبي وذلك للإيفاء بالالتزامات تجاه موردي المواد البترولية وغيرها من السلع. هذا بخلاف فرض غرامات من المورد التي عادة ما تحدث بسبب تاخير السداد جراء انتظار البنك لرفع سعر الذهب في البورصة . الأخطاء في طريقة شراء الذهب للتصدير أدت إلى خسائر كبيرة للبنوك المشاركة في المحفظة بسبب عدم استقرار السعر بالنسبة للذهب وللعملة الاجنبية وهي الدرهم الذي كان يتم التعامل به . لذلك اكبر ما واجه المحفظة السابقة هي مخاطر سعر الصرف ومخاطر بورصة الذهب لعوامل عدم الاستقرار .
ومن أمثلة المشاكل التي تعرضت لها المحفظة السابقة انها قامت بتمويل شركات استيراد البترول بالدولار وهذا طبعا شي طبيعي لكنها استلمت عائد البيع من شركات التوزيع المحلية بالجنيه السوداني مما احدث فروقات كبيرة جراء تصاعد سعر الدولار سريعا .. مساهمو المحفظة انفسهم تعرض البعض إلى خسائر كبيرة خاصة الذين كانت اسهمهم بالجنيه السوداني اذ تفاجوا بعدم حساب المبلغ بما يعادل الدولار في حينه وتم حساب العائد بالجنيه بحسب حجم المساهمة . فكان عدم توحيد العملة في أسهم المشاركين في المحفظة احدى عوامل الفشل بما تسببت فيه من مشكلات حسابية، هذا بخلاف اسباب اخرى أدت إلى تجاوزات وتراكم مديونيات البنوك التجارية على المحفظة تسببت في مخاطر نظامية هزت سيستم البنوك المشاركة واثرت على موقفها المالي ( مديونية بنك النيلين ابوظبي وحده 519 مليون درهم).
المشجع الان ان محفظة بنك الخرطوم تعتمد على رصيد بالنقد الاجنبي موجود بالفعل بالخارج وهو مبلغ مليار دولار . مع وجود فعلي لمخزون للذهب يمكن من الشراء عند استقرار الاسعار .بالتالي تتفادى مخاطر سعر الصرف ومخاطر البورصة.
إذا تمت ادارة محفظة بنك الخرطوم بعيدا عن الأخطاء الإدارية والفنية للتجربة السابقة فمن المؤكد انها لا تتسم بالاستدامة فقط بل سيتم توظيف الموارد الذاتية في ظل غياب الدعم الخارجي وعدم قدرة الحكومة على جلب موارد عن طريق الاقتراض الخارجي.
بحسب تقديرات بنك السودان المركزي فان المحفظة ستحد من الطلب الكلي على النقد الاجنبي بنسبة لا تقل ما بين 79-80٪ . وطبعا إذا تحقق ذلك فهي نسبة كبيرة وتمثل انجازا كبيرا في ظل ظروف الحرب الحالية.
ان نجاح هذه المحفظة في ضبط سعر الصرف سيكون انجازا غير مسبوق لصالح البنك المركزي في ادارة الشأن الاقتصادي اثناء الحرب لجهة انه استطاع ان يوازن ما بين الاستقرار النقدي والحفاظ على اداء جيد للمؤشرات الاقتصادية باستخدام احتياطاته من النقد الاجنبي وحشد الموارد عن طريق اكبر بنك تجاري في البلاد ، وبين تمويل المجهود الحربي من موارد ذاتية دون اللجوء لاي استدانة من الخارج وهو تحد كبير لم تنجح فيه اي دولة في حالة حرب من قبل.
على الحكومة بمختلف مؤسساتها ذات الصلة ان تدعم هذه التجربة بازالة كافة المعوقات . ونخص بالذكر هنا وزارتي الطاقة والمالية ، والامن الاقتصادي والإدارة العامة للجمارك
والاهم ايضا ان تنظر الحكومة في تعديل بعض القوانين لدعم سياسات البنك المركزي اثناء الحرب، ومنها قانون الجمارك والقوانين ذات الصلة بالتهريب وحمل والاتجار في النقد الأجنبي.
لكن لايمكن النظر إلى محفظة استيراد السلع وكانّها الحل السحري لاستقرار سعر الصرف او انها نهاية مرحلة انهيار الجنيه .
صحيح سيكون للمحفظة دور مهم لكن من الضروري ان تتخذ وزارة المالية خطوات إضافية مهمة ومكملة ، على راسها ايقاف استيراد السلع بغير اجراءات مصرفية . يعد الاستيراد العشوائي من اكثر عوامل رفع سعر الدولار لان فاتورته تاتي من تجار العملة في السوق الأسود.
كذلك من المهم ان ترافق تلك الخطوات سياسات لتمويل عجز الموازنة بعيدا عن الاستدانة من البنك المركزي ..
سمية سيد تكتب المركزي .. فرص نجاح ضبط سعر الصرف 2
