د. محمد الأمين العجب يكتب انطلاقة البلاد تنمويا بالتنوع المعرفي والخبراتي للجامعات والبنوك والاستثمارات السودانية

إن المعرفة والخبرات المتراكمة من خلفيات متنوعة هي الركيزة الأساسية التي تنهض عليها الدول الحديثة وتشق بها طريقها نحو التنمية المستدامة. فالتنوع المعرفي والمهني لا يثري منظومات الابتكار فحسب، بل يضمن أيضاً قدرة المجتمع والدولة على إنتاج حلول جديدة للتحديات المتجددة، بعيدا عن أسر التكرار وإعادة تدوير الأفكار القديمة.
إننا عندما نُفسح المجال لتلاقح الأفكار بين مختلف الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، وبين البنوك الوطنية والمصارف الاستثمارية، فإننا نزرع بذور الإبداع والتميز في كل القطاعات، ونعزز فرص الاكتفاء الذاتي ونوسع دائرة صادراتنا إلى أسواق العالم.
للأسف، ما يزال السودان رغم مرور عقود على استقلاله يعاني من ضعف في إدارة هذا التنوع المعرفي والخبراتي، فبرغم وجود أكثر من 155 جامعة وكلية، لم تستطع معظم هذه المؤسسات أن تبرز كقوة معرفية مؤثرة، بل ظل مشهد إدارة البلاد في شتى مناحي الحياة أسيرا لمؤسسة أكاديمية واحدة تهيمن على المشهد، ومع احترامنا لتاريخها ودورها الريادي، فإن الاعتماد على مصدر واحد للمعرفة والكفاءات يعطل طاقات هائلة من العقول والخبرات المتوفرة في بقية الجامعات والكليات.
إن على الجامعات السودانية أن تعيد الثقة إلى أساتذتها وخريجيها، وأن تتبنى رؤى أكثر جرأة لإبراز قدراتها العلمية والبحثية، لتثبت للمجتمع ولصانع القرار أنها تمتلك كوادر لا تقل كفاءة عن أي مؤسسة أخرى، وطنية كانت أو عالمية. إن الإبداع لا يزدهر في بيئة الاحتكار، بل في فضاء المنافسة العادلة وتكافؤ الفرص بين المؤسسات.
ولا يختلف الحال كثيرا في القطاع المصرفي؛ فرغم وجود أكثر من أربعين بنكاً ومصرفاً، لا تزال السيولة النقدية وحركة التمويل تحت هيمنة شبه كاملة لبنك واحد، في ظل تسهيلات استثنائية وتعاون رسمي أتاح له السيطرة على حراك الاقتصاد الوطني (مثل تطبيق “بنكك” والمحافظ الاستراتيجية). هذا الوضع يؤدي إلى تعطيل الطاقات الاستثمارية ويضعف المنافسة، ما ينعكس سلباً على الإنتاجية ويُفرمل الانطلاقة التنموية للبلاد.
إن الدرس الأهم هنا هو أن اختزال مستقبل دولة في يد مؤسسة واحدة، سواء أكانت جامعة أو بنكاً أو استثماراً، هو تكرار لنمط الاعتماد على الفرد الواحد الذي كان وما يزال من أكبر أسباب التراجع والاختناق التنموي. فلا نهضة بلا شراكة معرفية شاملة، ولا اقتصاد قوي بلا توزيع عادل للفرص.
*نصائح وإضاءات للإصلاح والانطلاق:*
1. تشجيع الجامعات على التعاون والتكامل بدل التنافس السلبي، وتوسيع الشراكات مع مراكز البحوث والشركات المحلية والعالمية.
2. تبني سياسات حكومية واضحة لتفعيل التنوع المعرفي، عبر توزيع الأدوار والفرص على جميع المؤسسات التعليمية.
3. فتح المجال أمام المصارف للاستثمار والتمويل العادل، وتفكيك الاحتكار البنكي الذي يكبل حركة السوق.
4. تحفيز الاستثمارات الوطنية والأجنبية، بشرط الالتزام بالقوانين وتشجيع المنافسة الشفافة التي تصب في مصلحة الاقتصاد الكلي.
5. تعزيز ثقافة التعدد والتنوع في مراكز اتخاذ القرار، وعدم الوقوع في فخ الاعتماد على مؤسسة واحدة أو نخبة محدودة.
6. وضع إطار قانوني صارم ينظم توزيع الأدوار والموارد، ويمنع الاحتكار والتغول ويضمن بسط العدالة المعرفية والخدمية بين أبناء الوطن.
وأخيرا، فإن السودان، الذي يمتلك من الثروات الطبيعية والعقول المبدعة ما يفوق احتياجاته بأضعاف، قادر – بعون الله – أن يفك قيوده ويطلق قدراته إذا وُجدت الإرادة الصادقة لإدارة هذا التنوع بحكمة وعدل، بعيداً عن الشخصنة أو الاحتكار أو تكرار القديم في أثواب جديدة.
*والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون*