لم يخطر على بال الكثيرين أن الفاشر، رغم كل ما أصابها من ظلمٍ متواصل، ما زالت تُوقظ الوعي والكرامة. العجب ليس في كيف تكالبت عليها قوى الشر بعد ٢٦٨ نصراً، بل في كيف بقيت واقفةً روحاً حين انهار الجسد. المأساة لا تكمن فقط في الخسارة العسكرية، بل في الدهشة التي تلدها مدينة محاصَرة من كل الجهات. سماءٌ تمزقها المسيرات أرضٌ جُرفت مواردها، وجوعٌ أنهك الأجساد، وصمتٌ يولد خيانةً أعظم من أي رصاصة. وفي قلب هذا الخراب، تظل الفاشر مدرسةً للكرامة والوعي. مدينة تعلمنا أن البقاء لا يُقاس بالجسد، بل بالروح التي تصمد رغم كل ما ينهار حولها.
الفاشر علّمتنا درساً قاسياً، لكنه أنبلُ ما تعلّمه الشعوب حين تُختبر إنسانيتها. فالصمود ليس مجرّد فعلٍ عسكري، بل فعلُ روحٍ تعرف لماذا تبقى، وتُدرك أن الكرامة أثمن من البقاء نفسه. حين تُغنّي المدينة وسط أنقاضها لتُبقي اسمها حيّاً، تكون قد انتصرت للإنسان فيها قبل أن تنتصر للأرض. الهزيمة لا تُقاس بعدد القتلى، بل بما يتبقّى من ضميرٍ في وجه الفناء، فالوطن الذي يفقد ضميره لا يُهزَم في معركة، بل يُهزَم في ذاته، وحين يموت الضمير، تموت معه كلُّ المعاني قبل أن تُطلقَ رصاصةٌ واحدة.
هناك شيءٌ لم يخطر بالبال، أن المدينة، وإن أنهكها الخراب، تستطيع أن تُنجب وعياً لا يُشبه ما كان قبل الألم. الفاشر لم تُعلّمنا كيف نحارب، بل كيف نرى الحقيقة في وجوهٍ كثيرة، وكيف نؤمن أن الأسئلة الكبرى تُطرح بعد أن ينجو الوطن لا وهو يلفظ أنفاسه. ليس هذا وقت الخذلان، ولا ساعة اللوم، فالنزيف لا يُضمّد بالعتاب. الآن وقتُ الإنقاذ لا المحاسبة، ووقتُ البناء لا الجدال. وحين ينهض الوطن على قدميه، سيكون علينا أن نعود إلى تلك الأسئلة، لا لنُدين أحداً، بل لنفهم كيف خسرنا الطريق، وكيف نمنع التكرار. فالمحنة لا تُختَزل في من أخطأ ومن أصاب، بل في قدرتنا على أن نخرج منها بضميرٍ لا يتلطّخ، ووعيٍ لا يُنسى، ووطنٍ يولد من رحم الجرح أكثر صدقاً وإنسانية.
الثأر الذي نطالب به ليس نداءً للانتقام بل عهدٌ بالعدالة والذاكرة. ثأرنا أن نبقي أسماء الضحايا حيّةً في التاريخ، لا ورقاً يُباع أو يُبادل. ثأرنا أن لا تُقاس خسارتنا بمساحات تُحتلّ أو تُفقد، بل بمدى إنصاف من كانوا ضحايا والاعتراف بألم من فقدوا. ثأرنا أن نُعيد بناء وعيٍ وطنيٍّ يرفض أن يُستساغ الشرّ باسم الانتصار، ويُعلّمنا أن نفرّق بين بطولةٍ تكرّم الإنسان، ووحشيةٍ تميته. هذا هو الثأر الذي يُنقذنا من تكرار الجراح.
ولنَقِفْ خلفَ الذين ظلّوا يُناضلون، ليس لأنهم يحملون السلاحَ، بل لأنهم يحملون وعياً يُبقي الوطنَ حيّاً. لن نقف خلف مؤسساتٍ تلهثُ إلى السلطة، بل خلف مجتمعٍ لا يصمت حين يُذبحُ ضميره. الوحدةُ ليست شعاراً تُرفَعُ فحسب، بل عهدٌ أخلاقيّ نَلتزمُ به. أن نعيدَ للفاشرِ اسمَها، وللسودانِ كرامتَه، وللإنسانِ حقَّه في الحياةِ بلا خوفٍ ولا إذلال.
الفاشر ليست نهايةَ حكاية، بل بدايةُ اختبارٍ يضطرّنا لأن نتساءل بصراحةٍ ووجع. هل نملك القدرةَ على تحويل الحزن إلى معرفةٍ عمليةٍ تقودنا نحو وطنٍ لا يقتل أبرياءه؟ وهل نملك الإرادةَ لتحويل الغضب إلى مشروعِ عدالةٍ حقيقيٍّ يُصحّح أخطاءنا ويُنصف الضحايا؟ الإجابة لا تُقاس بالكلمات، بل بالأفعال. وتلك الأفعال تتجسّد في ثلاث قواعد لا تفاوضَ عليها. تذكّرٌ صادقٌ لا يخضع للتهرّب، ومساءلةٌ عادلةٌ بلا نزعةٍ انتقامية، وبناءٌ وطنيٌّ يقوم على إرادةٍ حرّةٍ لا إكراه فيها. بهذه البساطة وبهذه الصرامة يختبر الوطنُ صدقيتَنا، فإمّا أن تنجح الحكاية، وإمّا أن تعود لتُروى مرّةً أخرى دون خلاص.
في النهاية، لن نبكيكِ، فالبكاءُ وحده خيانةٌ لصوتكِ الذي ما وُلد ليُرثى، بل ليبقى. سنفعل ما هو أسمى من الدموع. سنحملكِ في ضميرنا وصيّةٍ تتوارثها الأجيال، ونكتب من وجعكِ دستوراً أخلاقياً جديداً، يُعيد إلى هذا الوطن وعيه بكرامة الإنسان وقدسية الحياة. سنعلّم أبناءنا أن الفقدَ ليس نهاية، بل بدايةُ عهدٍ مع الحقيقة، وأن الألم، حين يُطهِّر، يصبحُ إيماناً، وحين يُختَبر بالصبر، يتحوّل إلى نورٍ يهدي الخطى في عتمة الطريق. فنامي قريرةَ العين، فما خُلق اسمُكِ ليموت في غبار الحرب، بل ليُصبح نجماً في ذاكرة الأمة، يدلّنا كلما تاهت البوصلة، ويذكّرنا أن الخيانة الحقيقية ليست في الهزيمة، بل في أن ننسى من علّمونا كيف تُصان الكرامة بالثبات.
abudafair@hotmail.com

 
								 
			 
			 
			