بروف صلاح محمد إبراهيم يكتب العسكريون كانوا من أفضل حلفاء واشنطن

فجرت الدعوة الأميركية الأخيرة لقائد الجيش السوداني و التي يروج لها الان للقاء في مدينة جنيف السويسرية والتي تهدف لوقف اطلاق النار وايصال المساعدات الإنسانية خلافات بين القوى المدنية السودانية المختلفة بين من يرى أن على الجيش السوداني أن يقبلها ويرسل وفده إلى جنيف ، ومن يرى أن على الجيش أن يرفضها لأنها تتجاهل كل التجاوزات التي قامت بها قوات الدعم السريع التي تمردت على القوات المسلحة وارتكبت العديد من الفظائع.
أعتقد أن أكثر تحربيتين ناجحتين بين السودان والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية كانت خلال فترة الرئيس إبراهيم عبود وفترة الرئيس جعفر النميري، وكان نتاجها تعاوناً سياسياً واقتصادياً وتنموياً ناجحاً.
لاحظت أن الولايات المتحدة من خلال دعوة جنيف قد قدمت اشارات حول استعدادها لمساعدة السودان ، وقد ظهر ذلك من خلال ظهور اسم سامنتا بورز مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في الوفد الذي كان من المقرر أن يزور السودان، وهي الوكالة التي ساهمت في تمويل تصنيع أول طائرتين بوينج للخطوط الجوية السودانية في بداية السبعينيات بمدينة سياتل في ولاية واشنطن ، كما كان للمعونة الأميركية دور كبير خلال فترة حكم الرئيسين عبود والنميري.
كان من الممكن أن تساهم الدعوة الأميركية في حل سريع للمشكلة السودانية إذا ما كان فيها إدانة واضحة لاتتهاكات الدعم السريع كما جاء في الكثير من التفارير الدولية ، الموقف الأميركي من الدعم السريع فيه الكثير من الغموض ولا يصب في صالح الوساطة الأميركية و يشكك في النوايا الأميركية، وواضح أن واشنطن لا تعطي وزناً لموقف الشارع الداخلي في السودان تجاه خروقات الدعم السريع ، وتريد أن ترضي أطراف المعارضين السياسيين في الخارج، وإذا ما أريد للمحادثات أن تتم لابد من مراجعة للموقف الأميركي وعدم الظهور بمظهر من يوفر غطاء للانتهاكات.
من محادثات جدة الأولى التي عقدت في 5 مايو 2023، والتي كان من المفروض أن تنهي الحرب في أيامها الأولى ومروراً بلقاءات دارت في عواصم عربية وأفريقية من القاهرة وأديس أبابا وكمبالا ونيروبي وجيبوتي والمنامة وغيرها ، ظلت القوى المدنية البعيدة والحاضرة عن هذه اللقاءت في حالة تنافر وخلافات فيما بينها حول تسوية الأزمة السودانية، وهو أمر تسبب في افشال كل الجهود الاقليمية والدولية في ايقاف الحرب في السودان بسبب تباعد المواقف الأمر الذي ظل المجتمع الاقليمي والدولي يوظفه لمصالحه ، فالتدخل الدولي في القضايا ذات الشأن الداخلي الخاص بالدول ظل خاضعاً في كل العالم للعبة المصالح التي تحقق مكاسب أكبر للأطراف الخارجية كلما احتدم الصراع والخلافات الداخلية في مختلف دول العالم ، ولعل هذا هو ما يحدث في السودان وهو ظاهر في ما نشهده من تدخل خارجي كثيف في الشأن السوداني .
واضح من موقف القوى المدنية من الدعوة الأميركية أن الأمر يمثل امتداداً طبيعباً ومستمراً لتباعد مواقف القوى المدنية المتأصل القديم الجديد والذي تسبب في تأخر السودان عن محيطه الاقليمي ، فالقوى المدنية السودانية لم تحسن إدارة الدولة منذ استقلال السودان عام 1956، وكانت السبب في اندلاع أول تمرد في جنوب السودان عام 1955 عندما قامت الفرقة الجنوبية بتدبير وتشجيع أجنبي بقتل العديد من الموظفين المدنيين الشماليين الذين كانوا يعملون في الجنوب ، لمجرد أن أوامر قد صدرت لنقل الفرقة إلى الخرطوم للمشاركة في إعلان استقلال البلاد، وكان على حكومة الأزهري أن تعالج الوضع في الجنوب حتى إذا ما انتهي بالانقصال دون الدخول في حرب امتدت لنصف قرن.
الفشل في إدارة الدولة من قبل القوى المدنية تكرر بعد عودتها إلى السلطة عام 1964 بعد ثورة أكتوبر عندما قامت الحكومة المنتخبة بطرد نواب الحزب الشيوعي المنتخبين من البرلمان ، وعدم تطبيق قرارت مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب الأمر الذي تسبب في استقالة رئيس القضاء وتدهور الأوضاع في الجنوب وانتهى بالانقلاب العسكري الذي حدث في عام 1969.
تواصل مسلسل الفشل مع الديمقراطية الثالثة بعد سقوط نظام مايو في انتفاضة شعبية عام 1985، و تعدد الحكومات الإئتلافية للصادق المهدي مع الإسلاميين والاتحاديين والخلافات حول حل مشكلة الجنوب وتدهور أوضاع الجيش ، والأزمة التي حدثت بين حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي والحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة محمد عثمان الميرغني، وسؤ تقدير الحزبين للوضع السياسي الداخلي وعدم اتباع سياسة خارجية تحقق مصالح السودان، واللامبالاة التي تم التعامل بها مع كل المؤشرات التي كانت تتحدث عن انقلاب عسكري وشيك وهو ما حدث في 30 يونيو 1989.
رغم تباين الآراء حول التقييم الصحيح لفترة حكم الإسلاميين بعد انقلاب 1989 التي تعرف بفترة ( ثورة الاتفاذ ) أو المؤتمر الوطني بعد ذلك، والتي يعتبرها البعض فترة حكم عسكري ، غير أن من المؤكد أن الدور العسكري فيها اقتصر على عدد محدودة من العسكريين فهي في الحقيقة كما ظهر عمل قوى مدنية بامتياز ، لذلك يجب أيضاً أن تضاف اخفاقاتها وتنسب للسياسيين المدنيين السودانيين.
لا يجب على واشنطن أن ترفض التقارب مع العسكريين في السودان ، فهذه ليست المرة الأولى التي تقترب فيها منهم ، فقد سبق أن تعاونت الإدارة الأميركية مع الحكومات العسكرية في السودان من قبل ، فقد زار عبود أميركا بدعوة من الرئيس الديمقراطي جون كيندي عام 1961،، كما زار النميري أميركا في عهد الرئيس كارتر عام 1978، ويعني ذلك أن الحكومات الديمقراطية غي واشنطن لم يكن لديها مشكلة في التعامل مع الحكومات العسكرية ما دامت لا تتعارض مع مصالح الطرفين.
إن العقبة الوحيدة التي تقف بين التفاوض المباشر بين السودان ممثلاً في الحكومة التي يمثلها المجلس السيادي الانتقالي هي عدم اعتراف الولايات المتحدة بالانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع وهي غير مسبوقة في تاريخ التمرد على الدولة في كل العالم ، ولم تحدث من قبل لا في جنوب السودان أو من جانب حركات دارفور ، وعلى الإدارة الأميركية أن تكون أكثر وضوحاً في هذا الجانب حتى تكون وسيطاً مقبولاً وناجحاً، هناك سلطة عسكرية تمثل رمزية الدولة وتحظي بإعتراف اقليمي ودولي ، ولابد أن تعمل الإدارة الديمقراطية الحالية برئاسة بايدن بما سبق أن فعلته إدارات ديمقراطية سابقة بالتعاون الايجابي مع الحكومة العسكرية الحالية في السودان وتتفهم أن انتهاء الحرب في السودان يتم بتفكيك ما تبقى من قوات الدعم السريع بتنفيذ مخرجات ( جدة ) بالكامل وابعاد الأجانب منهم إلى دولهم .
ما جاء في الدعوة إلى جنيف به بعض المؤشرات التي تدل على امكانيى حدوث تعديل في الموقف الأميركي ، ولكن يبقى السؤال هل القوى المدنية مستعدة للحكم حتى إذا ما تم إجراء انتخابات ولو بعد عام أو عامين بعد توقف الحرب؟، هذا ما يجب على جنيف أن تأخذه في الحسبان ، لأن وقف الحرب أو الهدنة أو تحت أي اسم اخر له ما بعده وهو الجانب الأهم لأنه مرتبط بعودة الاستقرار والبناء الذي عادة ما يفسده السياسيون بأخطائهم التاريخية المتكررة في السودان .