هل نجح مؤتمر القوى السياسية المدنية في القاهرة الذي انعقد بتاريخ السبت السادس من يوليو 2024 ؟ نعم حقق تقدماُ ولكنه ترك السؤال الذي طرحه الكاتب المصري محمد حسنين هيكل منذ ثورة أكتوبر 1964 معلقاً دون إجابة، عندما تساءل في مقاله الشهير (بصراحة) بصحيفة الأهرام ، ثم ماذا بعد في السودان ؟ والذي أغضب السودانيين ، ولكنه ظل سؤالاً مشروعاً تردد عقب كل الانتفاضات السودانية ، والأن بعد مؤتمر القاهرة يظل السؤال مطروحاً ، ثم ماذا بعد مؤتمر القوى السياسية المدنية في القاهرة؟ وهو بالطبع سؤال موجه للقوى المدنية التي فشلت عبر بيانها المشترك في الإجابة على أهم أولويات المؤتمر وهي البحث عن اَلية لوقف إطلاق النار أو الحرب ، أو تقديم رؤية واضحة حول تشكيل الاَلية وترك الأمر كما يبدو إلى لجنة نقاشات ؟! وهل ما زال هناك وقت لمزيد من اللجان والنقاشات ؟ حفل البيان بلغة إنشائية فضفاضة ومسلمات متفق عليها لا تضيف جديداً .
كنت اتمنى أن تشتمل ديباجة البيان إشارة إلى أسباب فشل عملية الانتقال السياسيى بعد ثورة ديسمبر 2018 وتشخيص موضوعي للعلة التى كانت وراء الفشل وادخال البلاد في صراع وحرب كارثية حتى يساعد ذلك في العثور على الرؤية المفقودة التي كان يبحث عنها المؤتمر .
في شهر رمضان 2019 تلقيت دعوة من جهة سيادية محترمة للمشاركة في تقديم تصور لمرحلة الانتقال بعد ثورة ديسمبر 2018، ، وكان اعتصام القيادة الشهير تتردد هتافاته ليل نهار ، عقدنا سلسلة من الاجتماعات ( 10 خبراء) على مدى أسبوعين في جلسات بمقر سيادي ضمت خبراء بينهم أكاديميين وقانونيين ودبلوماسيين وعسكريين بعضهم شارك بموقع وزاري في فترة الانتقال التي أعقبت انتفاضة أبريل 1985.
دارت بيننا حوارات كانت مسنودة بأوراق مكتوبة وخبرات متراكمة خلصت إلى رفع توصية بتصور لفترة انتقالية لا تزيد عن عام أو عامين يقودها تكنوقراط بدستور ومهام محددة قابلة للتنفيذ وخالية من طموحات سياسية ذات سقف عالي يمكن أن يعرقل مرحلة الانتقال ويزيد من تعميق الخلافات السياسية في فترة شهدت ظهور تيارات سياسية وحركات مسلحة ليست لها رؤية مشتركة حول فترة الانتقال ، كما أن بعضها لم يكن له تجربة سياسية أو تنفيذية أو حتى نقابية أو مهنية معلومة للكثيرين ، وكان الهدف أن تنتهي فترة الانتقال إلى انتخابات بعد أن تكون القوى السياسية قد رتبت أوضاعها بعد ثلاثين عاماً من فترة البيات الشتوي التي عاشتها.
تقرق جمعنا بعد أن أدينا مهمتنا ، ويبدو أن التصور الذي تقدمنا به اصطدم بالسقف العالي لدى بعض القوى السياسية والضغوط السياسية من الداخل والخارج ، ودخلت الفترة في قضايا جدلية وكتابة ما اطلق عليه وثيقة دستورية أربكت الساحة السياسية بسبب ما احتوته من قضايا جدلية وخلافية وطموحات ليست من قضايا الانتقال ومن المستحيل التوافق عليها في ساحة سياسية منقسمة، وثيقة مخالفة للتجربة السودانية التي سبق أن عالجت فترتين من الانتقال السياسي بحكمة ونضج سياسي وبعد نظر جنب البلاد الكثير من الخراب الدمار الذي يمر به السودان الأن .
في اعتقادي أن الجانب المدني في معادلة الانتقال هو الذي يتحمل مسوؤلية النجاح أو الفشل حسب التجربة السودانية ، فخلال التجربتين السابقتين بعد ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985، كان من المتفق عليه أن الجهاز التنفيذي سوف يسند إلى إدارة مدنية كاملة ، وهو ما حدث بعد ثورة أبريل 1985ـ بإستثناء ثورة أكتوبر 1964 حيث تنازل الفريق عبود بحكمتة وبعد نظره استجالة لرغبة الجماهير وأصبح الطريق ممهداً لحكم مدني كامل الدسم في مجلسي السيادة والوزراء، وهو ما لم يحدث بعد أبريل 1985، حيث تمسك العسكريين بعام للانتقال يتم بعده تسليم السلطة بعد انتخابات.
فشل القوى السياسية في إدارة فترة الانتقال بعد ثورة ديسمبر، يعود لجملة من الأسباب التي يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1- ضعف العمل النقابي وانقسام تجمع المهنيين وغياب قيادات نقابية وسياسية تحظى بالقبول والتجربة لدى الجمهور والمؤسسة العسكرية ، وكان واضحاً أن الشقة بعيدة بين الطرفين المدني والعسكري منذ البداية .
2- تفتت الأحزاب وانقسامها حتى داخل البيت الطائفي الواحد.
3- وثيقة دستورية مشوهة خلقت أوضاع سياسية مضطربة أغرقت المشهد السياسي وتسببت في عدم استقرار الفترة الانتقالية بسبب شحنها بمهام من المستحيل تنفيذها.
4- فكرة الاقصاء كانت سيدة الموقف وكان من الواجب معالجة تجاوزات فترة الانقاذ عن طريق الطرق القانونية كما حدث بعد ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل من محاكمات.
5- التدخل الخارجي خاصة بعد خطأ استدعاء البعثة الأممية في دولة لها من تجارب الانتقال ما يمكن أن يصلح حال الأمم المتحدة نفسها .
6- إصرار بعض القوى المدنية والسياسية على المشاركة في الفترة الانتقالية في مهام تنفيذية وعدم الأخذ بفكرة حكومة التكنوقراط المستقلة التي تعمل على معالجة الأوضاع ذات الأولوية المتعلقة بمعاش الناس والتحضير للانتخابات.
7- شحن القترة الانتقالية بالمواكب اليومية وإشعال الشارع بالشعارات الملتهبة والعدائية ومحاولات الإساءة للقوات المسلحة والقوات النظامية، وهي أكثر قوة متماسكة في الدولة في بلد به قوى سياسية منشقة ومتشاكسة طوال تاريخها السياسي ، وكان من الممكن أن تتم معالجة اية أوضاع قي القوات النظامية إذا وجدت من خلال الحكومة المنتخبة التي تملك التفويض الشعبي.
الأن بعد دعوة مصر لمؤتمر القوى المدنية السودانية بعد مرور اكثر من أربعة أعوام وخراب ودمار عاد الجميع إلى المربع الأول خاصة إذا ما اخذنا في الاعتبار خطاب وزير الخارجية المصري الجديد بدر بعد العاطي الذي تحدث عن حوار يشمل الجميع والمحافظة على وحدة القوات المسلحة وهما قضيتان تعاملت معها القوى المدنية مجتمعة بدرجة من عدم المسوؤلية الوطنية واللامبالاة .
الدور المصري في السودان يظل دوراً محورياً ورئيسياً في كل الأوقات خاصة بعد ظهور عدم توافق جديد في مؤتمر القاهرة من بعض الحركات الدارفورية ، ومن الصعب في هذه الظروف السياسية المعقدة التي يمر بها السودان أن يظل الشعب السوداني في الانتظار مشتتاً بين الدول حتى تتوافق القوى المدنية السياسية وهو أمر من الصعوبة بمكان مع عشرات الكيانات المتشاكسة .
لقاء المؤتمرين بالرئيس عبد الفتاح السيسي وتأكيده على ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة يعكس الأهمية التي أولتها مصر لهذا المؤتمر وعلى المؤتمرين الفهم الصحيح لما قصد كما هو واضح في خطاب وزير الخارجية بدر عبد العاطي الذي جعل السودان في مقدمة جدول اعماله ، ولابد للقاهرة من استثمار هذه الفرصة حتى لا تتسرب بسبب مد حبال الصبر لمزيد من التوافق بين القوى المدنية ، فقد كان وزير الخارجية المصري وهو يخاطب المؤتمرين يعبر بألم حقيقي عن ما وصل إليه حال السودان الشقيق، ومصر ليست طرفاً خارجياً بحكم خصوصية العلاقات السودانية المصرية ولا يجب أن تكون هناك حساسية حول هذا الأمر عندما نتحدث عن تدخل الخارجي فالوادي واحد والنيل واحد والوجدان واحد والتاريخ واحد وهذا ليس حديثاً عاطقياً .
من الواضح أنه ما زال هناك مسافة واسعة ومواقف متباعدة بين الكتلتين الرئيسيتين ( تقدم والكتلة الديمقراطية ) ، وهذا واضح من خلال خطابي السيد جعفر الصادق ود. خليل إبراهيم ، وهذا التباعد لا يبشر الشعب السوداني بأفق تسوية قريبة ونهاية للحرب.
أعتقد جاء الوقت الذي يتوجب فيه على مصر أن تدعم جهودها بتعزيز دورها المحوري في السودان بعد هذا المؤتمر بخطوات عملية ، خاصة وهي الدولة الأكثر تأثراً بالأزمة السودانية بحكم حركة التدفقات السكانية بين البلدين ، مصر هي من قدمت للعالم بطل الحرب والسلام ، ولا شك أن كل أبناء مصر ابطال للحرب والسلام وقادرين على مساعدة أشقائهم على تجاوز هذه المرحلة غير المسبوقة في تاريخ البلدين بعبور تاريخي جديد.
بروفيسور صلاح محمد إبراهيم يكتب الانتقال السياسي في السودان والدور المصري
