قبل انقلاب 30 يونيو بحوالي ثلاثة أسابيع تلقيت بصفتي الأكاديمية دعوة من مدير الأكاديمية العسكرية بالخرطوم لحضور حفل تخريج دفعة من كبار ضباط القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وقادة من الخدمة المدنية ، وهي دورات متقدمة مدتها عام يتلقى فيها الدارسين علوم أكاديمية وأمنية متنوعة و متقدمة تنتهي بتقديم بحوث رفيعة المستوى بإشراف أكاديمي من بعض أساتذة الجامعات. من تقاليد الأكاديمية أن يكون المتحدث الرئيسي في حفل التخريج فيها شخصية معروفة ذات مساهمات رفيعة في الحياة العامة، وقد حرصت على تلبية الدعوة لأن المتحدث الرئيسي فيها في ذلك اليوم كان هو د. حسن الترابي زعيم الجبهة القومية الإسلامية التي خرجت من حكومة الصادق المهدي الائتلافية التي كانت تشارك فيها مع حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي بعد مذكرة القوات المسلحة الشهيرة التي تقدم بها الفريق فتحي أحمد على قائد الجيش بسبب تدهور الأوضاع داخل القوات المسلحة بسبب الحرب في الجنوب، ، وتبع ذلك اتفاقية (الميرغني قرنق) وتوضيحاتها المشروطة من قبل الصادق المهدي. .
كان الجو السياسي مشحوناً وملتهباً ، وفسر خروج الإسلاميين من السلطة من قبل البعض وكذلك من والإسلاميين بأنه تأمر لابعادهم من الحكم بضغوط خارجية بسبب اعتراضهم على الاتفاقية التي وقعها السيد محمد عثمان الميرغني المعروقة بأسم (اتفاقية الميرغني قرنق) ومحاولة تمريرها داخل البرلمان ، كان عنوان المحاضرة التي القاه د, الترابي حول الوضع السياسي الراهن ، حضر مع الترابي السيد على عثمان محمد طه ، كما حضر كل أعضاء هيئة أركان القوات المسلحة في مقدمتهم الفريق أول بابو نمر ، وعند ما سأل أحد الضباط الترابي في نهاية المحاضرة عن كيفية الخروج من المأزق وحالة التوتر السياسي ، قال الترابي بطريقة حاسمة على حكومة الصادق المهدي أن تذهب .
أذكر عندما كنت مسؤلاً عن صحيفة السياسة عام 1986 ، كان العديد من مفصولي جهاز أمن الدولة الذي تم حله يزوروني في الصحيفة ويقولون أن الأضاع الأمنية على درجة عالية من الاضطراب وكانت تدور شائعات حول انقلاب عسكري مرتقب ، وقد استمرت درجة الغليان السياسي في الارتفاع بسبب الانقسامات السياسية داخل البرلمان وبين الأحزاب وتعدد حكومات الصادق المهدي خلال الفترة بين 1986-1989، وفي احد المؤتمرات الصحفية للصادق المهدي عقد في مقر مجلس الوزراء شرق مستشفى الخرطوم سأل احد الصحفيين الصادق المهدي عن توقعات بحدوث انقلاب عسكري ، فرد الصادق المهدي بقوله ذلك ممكن ولكن ليس هو الحل ، وهي إجابة يفهم منها أن رئيس الوزراء تصله تقارير حول الوضع الأمني وما يدور ، لذلك يظل السؤال هو كيف تمكنت الجبهة القومية من الوصول إلى الحكم بعمل عسكري على الرغم من اشارات د. حسن الترابي بحضور هيئة الأركان والتفارير الأمنية التي تصل إلى رئيس الوزراء.
صباح يوم الانقلاب في 30 يونيو زارني صديق وتحركت معه بالسيارة حتى القيادة العامة والعمارات الكويتية ولم يعترضنا أحد طوال الطريق ، بل لم يكن هناك أي مظهر لتحركات عسكرية، وعدت إلى منزل الأسرة في الخرطوم 3 قرب جسر شارع الحرية المؤدي إلى ميدان ( جاكسون) وقبل منتصف النهار سمعنا صوت هدير دبابات قادمة من ناحية الجنوب ( من سلاح المدرعات)، وكان في المقدمة دبابة بقودها شاب صغير لم أعرفه وتبين بعدها أنه الرائد إبراهيم شمس الدين ، وكانت تلك أول تأكيد لحدوث حركة عسكرية لم تكن توجهاتها معلومة، وساد حولها ضباية حتى بعد تشكيل مجلس الثورة الذي ضم خليطاً من العسكريين الذين لا علاقة لهم بالحركة الاسلامية .
في اعتقادي أن السيد المهدي عندما قبل اتفاقية الميرغني قرنق تحت الضغوط بعد حكاية ( توضيحاتها ) المشهورة والتي أصبحت مثاراً للسخرية والتندر لأن التوضيحات اعتبرت من قبل المراقبين تبريراً غير مقنع بعد أن سبق رفضه الاتفاقية حتى لا تحسب انجازاُ للإتحاديين ووصولهم إلى حل مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق الذي كان يكن تقديراً خاصاُ للسيد محمد عثمان الميرغني ويخاطبه بقول ( مولانا)، كما أن المهدي كان يتوجس من وقوعه تحت سيطرة الحركة الشعبية والاتحاديين ويفقد التوازن الذي كان يدير به حكومته بمشاركة الإسلاميين.
يبدو أن المهدي أيضاً اضطر لقبول الاتفاقية بعد مذكرة القوات المسلحة شديدة اللهجة التي تم رفعها إلى مجلس السيادة ، خاصة مع وجود الفريق أول بابو نمر الرجل الثاني في الجيش المحسوب على حزب الأمة من ناحية أسرته، الصورة كانت واضحة أمام المهدي وهي أن البلاد مقبلة على حركة تغيير كبير أما قبول الاتفاقية أو رفضها وفي كل الأحوال سوف يكون الوضع الديمقراطي كله على المحك، فقبل بأقل الأضرار طالما حزبه يحتفظ برئاسة الوزارة.
وحدث ما حدث ، كان واضحاً أن الحركة الاسلامية كان لديها سيناريوهات لمجابة كل المتغيرات ، والحقيقة أذا ما نظرنا إلى كل الانقلابات التي حدثت في السودان لم تكن نخلو من شبهات التدخل الحزبي الظاهر والخفي من انقلاب الفريق عبود الذي تم بتشجيع من من رئيس الوزراء عبدالله خليل المنتمي لحزب الأمة وباركه الحسيب النسيب على الميرغني زعيم الختمية والسيد عبد الرحمن المهدي زعيم الانصار وحزب الأمة ، ومروراً بمايو التي لم تخلو من شبهة المشاركة الشيوعية على الرغم من نفي الحزب الشيوعي لعلاقته بالانقلاب وانتهاء بالانقاذ التي ارتبطت بالإسلاميين ، وهنا أيضاً يأتي السؤال على ماذا تتشاجر الأحزاب والقوى السياسية الرئيسية السودانية الأن ما دامت كلها مسؤالة بدرجات متفاوتة عن كل التدخلات العسكرية التي هي من صنعت البيئة الداعمة لها ، بل ربما هي سببها الأول بسبب ممارساتها غير المسؤلة؟
من المؤكد وفقاً لتاريخ التجربة المدنية في الحكم أن الأحزاب السياسية السودانية كلها في أجيالها المختلفة تحتاج قبل أن تعبر إلى الحكم بعد هذه الحرب إلى مراجعات في هياكلها وبرامجها بصورة تثبت أنها تعمل بطريقة مؤسسية ولديها تفويض حقيقي من جماهيرها عن طريق مؤتمراتها القاعدية والعامة بعيداً عن التأثيرات الطائفية والأسرية والقبلية ، وأن تعمل بعيداً عن محاولات استقاطاب العسكريين أو الطلاب في المدارس والجامعات ، خاصة من جانب الأحزاب الأيدولوجية.
في لقاء الأحزاب السودانية الأخيرة في القاهرة وأديس ابابا اختلفت القوى المدنية وتعثر صدور بيان ختامي متوافق عليه، وخلال لقاء اديس أبابا الأخير تخلفت قوى الحرية والتغيير( تقدم) وهذه هو ديدن السياسيين والأحزاب السودانية، تاريخ طويل من الخلافات والانقسامات والمكايدات وهناك تشكيك في قدرتها على تحمل المسؤلية بعد الحرب . قالها سعد زغلول من قبل ( مفيش فايدة) و على انغام ولهو السياسيين السودانيين نقول ( دقي يا مزيكة).
بروفيسور صلاح محمد إبراهيم. الصادق قبلها ( بتوضيحاتها) والترابي أعلنها ( بالواضح)
