السفير طارق حسن ابو صالح يكتب ل ( اخبار السودان) القصر الجمهوري معلم تاريخي

القصر الجمهوري معلم تاريخي من معالم بلادنا ومن المباني التي يحميها قانون الآثار وقوانين اليونسكو للحفاظ على التراث المعماري ويتوّجب الحفاظ عليه وفقاً لمواثيق اليونسكو للحفاظ على المباني التاريخية أثناء الحرب، كما أنّه وبموجب المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، فإنّ توجيه الهجمات المُتعمّدة ضد المباني المُخصّصة للدين أو التعليم أو الفن أو العلوم أو الأغراض الخيرية والمعالم التاريخية يعتبر جريمة حرب.
القصر الجمهوري الذي لحق به دماراً هائلاً اليوم كان شاهداً على كل المراحل التي مرّ بها السُّودان الحديث حيثُ بناه بالطين (اللبن) الحكمدار محو بيه أورفلي في العهد التركي المصري (التركية السابقة) عام 1825م ليكون مقراً للحُكم وسكناً له وسُمِّي آنذاك بمبنى الحكمدارية.
وفي عهد الحكمدار علي خورشيد باشا (1826 – 1838م) أُدخلت بعض الإضافات والتحسينات على المبنى واكتمل في شكله الجديد عام 1834م مع نقل العاصمة رسمياً من ود مدني للخرطوم.
وفي عهد الحكمدار عبد اللطيف باشا (1849 – 1851م) تمّ هدم مبنى قصر الحكمدارية المبني من الطين وأُعيد تشييده عام 1851م باستخدام الآجر (الطوب الأحمر) المنقول من بقايا خرائب مدينة سوبا الأثرية وبعض المباني القديمة في أبو حراز على الضفة الشرقية للنيل الأزرق. وتكون (السرّاي) الجديد من طابقين، وبه جناح للزوار وجناح خاص بالحريم، وأضيفت له لمسات جمالية حيثُ كُحِّل بالحجر الرملي من الخارج.
وظل القصر مقراً لحكمدار عام السودان حتّى قيام الثورة المهدية واستلامها لمقاليد الأمور في السُّودان. وفى بداية حكم المهدية (1885 – 1898م) تحوّلت العاصمة إلى مدينة أم درمان على الضفة الغربية للنيل وبعد وفاة مؤسس الدولة المهدية محمد أحمد المهدي قام خليفته والحاكم الثاني للدولة المهدية عبد الله التعايشي ببناء ديوان حكمه ومقر سكنه (بيت الخليفة) وظل مقراً للحكم حتّى دخول الجنرال كتشنر بقوّاته أم درمان بعد معركة كرري.
وقام حاكم عام السُّودان هيربرت كتشنر باشا أول حاكم عام للسودان بإعادة العاصمة للخرطوم وإعادة بناء القصر عام 1899م على الأساس الحجري لقصر الحكمدارية المُهدّم، واكتمل جزء كبير من مبنى القصر عام 1900م. و من بعد أقام فيه الحاكم الثاني السير ريقنالد وينقيت الذي أكمل بقية المُخطّط العام لمنشآت القصر ومُلحقاته بحلول عام 1906م. وقد شُيّد القصر بالطوب الأحمر إلا أن أركانه بنيت بالحجر الرملي. وتكون القصر من طابق أرضي وطابقين علويين وله ثلاثة أجنحة، جناح رئيس يقابل النيل الأزرق وامتد شرقاً وغرباً وجناح على اليمين وجناح على اليسار يمتدان من الجناح الرئيس إلى جهة الجنوب. وبعد بناء مبنى المديرية إلى الغرب من قصر الحاكم العام (وزارة المالية حالياً) انتقلت مكاتب السكرتير الإداري والمالي إليه. وظل قصر الحاكم العام مقراً وسكناً لحاكم عام السُّودان طيلة فترة الاستعمار الثنائي. وبلغت المساحة الكلية للقصر في هذه الفترة 000 74 متر مربع.
وبعد نيل السُّودان استقلاله في الأول من يناير سنة 1956م وإنزال علمي بريطانيا ومصر ورفع علم السُّودان فوق سارية مبنى قصر الحاكم العام، أصبح القصر المقر الرسمي لرئاسة جمهورية السُّودان ورمز السيادة الوطنية. وأصبح يعرف باسم القصر الجمهوري، وبه مكاتب أعضاء مجلس السيادة وإدارات رئاسة الجمهورية. وفى فترة حكومة مايو والحكومات اللاحقة خُصِّص مقراً لرئيس الجمهورية ونوابه ومُساعديه ومُستشاريه بعد إلغاء نظام المجلس الرئاسي الخماسي (مجلس السيادة). كما خُصِّص الطابق الثاني مُضيفةً رسميةً لضيوف البلاد من الملوك والرؤساء عند زيارتهم للسُّودان حتى 1974م .
ويعتبر رئيس المجلس العسكري الأسبق الفريق إبراهيم عبّود الرئيس الوحيد من رؤساء السُّودان في العهد الوطني الذى سكن داخل القصر الجمهوري، حيث شيّد مقراً لسكنه في الجزء الجنوبي الغربي من القصر الجمهوري عام 1960م.
حزّ عليّ شديداً خبر دمار هذا المعلم التاريخي المهم لبلادنا والإنسانية كما حزّ عليّ من قبل ما لحق بمتحف السُّودان القومي وبيت الخليفة، وأذكر عندما كان الأخ والصديق حاتم حسن بخيت مُديراً لمكتب رئيس الجمهورية ذهبت إليه وبروفيسور جعفر ميرغني وتفقّدنا القصر الجمهوري غرفة غرفة وطوبة طوبة، وبدأنا في إعداد مُقترحات لإعادة القصر لشكله القديم وإزالة كل الإضافات الجديدة التي شوّهت المعالم والتفاصيل الجميلة للقصر الجمهوري، إلا أنّ الأخ حاتم نُقل لموقع آخر بعد فترة قصيرة من زيارتنا هذه.