السفير.د.معاوية التوم_يكتب_ التسوية الأممية في السودان بين تكاثف الضغوط واستبطاء الحلول!؟

مقدمة

تتعمق الأزمة السودانية كل يوم في ظل انسداد سياسي وأمني متفاقم، بينما تتسارع المساعي الأممية والإقليمية لبلورة تسوية تُنهي الحرب المستعرة منذ أكثر من عام. غير أن هذه المساعي تبدو محاصرة بجملة من الضغوط المتعارضة والمصالح المتشابكة، ما جعل الحلول تتباطأ، والتسوية المنشودة تتحول إلى مسار معقد تتقاطع فيه الحسابات الدولية والإقليمية مع هشاشة الداخل السوداني.

في هذا السياق، تتصاعد أصداء التطورات الميدانية في دارفور، لا سيما حصار الفاشر، بالتوازي مع حرب المسيرات الاستراتيجية التي تحصد أرواح المدنيين وتدمّر البنى التحتية، وسط غياب واضح لإرادة دولية فاعلة، وتنامٍ لمظاهر الإفلات من العقوبة. ومع تمديد ولاية لجنة تقصي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الإنسان، وتعدد اللقاءات الإقليمية والدولية – من كواليس شرم الشيخ إلى الرباعية المرتقبة في واشنطن نهاية الشهر الجاري– تبدو التسوية الأممية في السودان محاصرة بين تكاثف الضغوط واستبطاء الحلول، ويبقى المعول على جهود الدولة لحماية كيانها على ما تضمره هذه الضغوط من مخاطر.
الفاشر: المدينة المحاصرة وامتحان الإنسانية الدولية
تعيش مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، واحدة من أعقد الأزمات الإنسانية في السودانلاكثر من عام ونصف، بعدما تحوّلت إلى ساحة حصار خانق يعاني فيه مئات الآلاف من المدنيين من نقص الغذاء والدواء والمياه النقية، وانقطاع التيار الكهربائي و الممرات الإنسانية الآمنة.
ورغم التحذيرات الأممية من “كارثة وشيكة”، فإن الاستجابة الدولية ظلت دون المستوى المطلوب، لتكشف عجز المنظومة الدولية عن حماية المدنيين، رغم كثافة البيانات ونداءات القلق.
تفاقم حصار الفاشر لا يختبر فقط قدرة الأمم المتحدة على التدخل الإنساني، بل يضع المجتمع الدولي أمام سؤال أخلاقي: هل فقد الضمير الإنساني فاعليته في مواجهة حروب العصر الحديثة التي تُدار بالوكالة وتُسكت فيها الحقيقة بحسابات النفوذ والمصالح، وانتقاية تعمل الجنس والجغرافيا في هكذا معايير؟
حرب المسيرات: قتل الحياة عن بُعد ومأساة البنية التحتية
تُظهر التطورات الميدانية أن حرب السودان دخلت مرحلة “التحكم عن بُعد”، مع تصاعد استخدام الطائرات المسيّرة في ضرب الأحياء المدنية والأسواق والمستشفيات.
هذه المسيرات، التي تتفاوت مصادرها وتقنياتها، خلّفت مئات الضحايا ودمّرت بنى تحتية حيوية، لم تترك المستشفيات او المساجد ومعسكرات النزوح، مما جعلها أداة لتقويض ما تبقى من قدرة الدولة والمجتمع على الصمود.
إنها حرب بلا وجوه، يشارك فيها الفاعلون عن بعد، بينما يدفع المدنيون ثمنها الباهظ. وقد أسهم غياب موقف حاسم من القوى الدولية في تكريس سياسة “الإفلات من العقوبة” وتشجيع أطراف الصراع على الاستمرار في نهج العنف.لتصبح هذا الأطراف شريكة في الجريمة، وتغيب دعاوى حقوق وحماية المدنيين والممرات الآمنة.
الاشتراك في الجريمة بالصمت أو التواطؤ
كل دعمٍ لوجستي أو سياسي لأطراف التمرد – سواء بتبرير أفعاله أو بالتغاضي عن خروقاته – يُعد مشاركة غير مباشرة في الجريمة. فحين تتراخى المواقف الدولية عن إدانة استهداف المدنيين أو تمنح “شرعية الأمر الواقع” لقوى مسلحة متمردة، فإنها تُقنّن لانتهاكاتٍ جسيمة وتقوّض مسار العدالة.
وقد أضحت عبارة “دعم الحل السوداني – السوداني” تُستخدم أحيانًا لتبرير الانكفاء الدولي لا لتعزيز استقلال القرار الوطني، مما يجعل التسوية في خطر التلاشي تحت وطأة ازدواجية المعايير والتسييس والانتقائية .
غياب الضمير الدولي الإنساني
تبدو المؤسسات الأممية والمنظمات الحقوقية والعدلية أسيرة التوازنات السياسية بين القوى الكبرى، فتكتفي ببيانات الإدانة دون أدوات إلزام أو آليات تنفيذ. هذا الغياب للضمير الإنساني الفاعل جعل من الحرب السودانية أزمة منسية في ظل أزماتٍ أخرى أكثر حضورًا على أجندة القوى الدولية بالاستجابة الفعالة والانخراط كما هو الحال في غزة واوكرانيا.
فالحديث عن حماية المدنيين فقد معناه العملي حين تُقصف المدن وتُغلق الممرات الإنسانية دون ردع أو مساءلة.
تمديد ولاية لجنة تقصي الحقائق: اعتراف بالعجز
قرار مجلس حقوق الإنسان في أكتوبر الجاري بتمديد ولاية لجنة تقصي الحقائق حول السودان يعكس إدراك المجتمع الدولي لخطورة الانتهاكات المستمرة، لكنه في الوقت ذاته يُبرز محدودية أدوات الأمم المتحدة ونجاعتها. فالتقارير الدورية التقديرية خارج مظانها للجنة لم تتحول بعد إلى إجراءات عملية تُلزم الأطراف المتورطة أو تُحدّد المسؤوليات الجنائية بوضوح.
إن فعالية هذه اللجنة ستظل رهينة لتعاون الأطراف المعنية، واستعداد الدول المؤثرة لتحويل التوصيات إلى قرارات مُلزمة أو عقوبات واضحة.ولا يغيب عن فطنة المتابع الاجندة السياسية من وراء الدول الغربية.
كواليس شرم الشيخ: إعادة التموضع الإقليمي
اللقاءات التي شهدتها شرم الشيخ مؤخرًا، بحضور ممثلين عن دول الجوار والفاعلين الإقليميين، كشفت عن رغبة متزايدة في إعادة ترتيب الأدوار بشأن الملف السوداني.
فبينما تسعى القاهرة لتأكيد دورها التاريخي كضامن للاستقرار الإقليمي، تحاول بعض العواصم الأخرى الحفاظ على نفوذها عبر بوابات الدعم السياسي أو الاقتصادي لأطراف الصراع.
ومع غياب رؤية موحدة، تبقى مبادرات الوساطة الإقليمية عرضة للتجاذب، والخلافات لتباين المصالح وعدم مشاركة الدولة السودانية مما يعمّق أزمة الثقة بين الأطراف السودانية ويؤخر الوصول إلى تسوية وطنية قابلة للحياة.
الرباعية في واشنطن: اختبار الإرادة السياسية
الاجتماع المرتقب لمجموعة الرباعية (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات) نهاية أكتوبر الجاري والتي تمنح آليتها (صك مفتوح) سيكون محطة مفصلية في مسار الأزمة السودانية.
فإما أن ينجح في صياغة مقاربة جديدة تنطلق من وقف الحرب وفتح الممرات الإنسانية وإطلاق عملية سياسية شاملة، أو يضاف إلى سلسلة لقاءات الوصاية التي تنتهي ببياناتٍ إنشائية دون أثر او خارطة طريق مقبولة للطرف الاصل.
ويُنظر إلى هذا الاجتماع باعتباره فرصة نادرة لتوحيد الجهود الدولية، لكن نجاحه يتوقف على مدى مشاركة او استصحاب راي القيادة السودانية وتطلعات شعبها، واستعداد الأطراف المؤثرة للتعامل مع جذور الأزمة لا مظاهرها، ولإعلاء مصلحة السودان على حساب حسابات النفوذ والتحالفات المتبدلة، التي ترمي لفرض مشروع اجنبي بوصاية مرفوضة.
خاتمة: السودان بين لعبة الأمم وأمل الحل الوطني
تختصر الأزمة السودانية مشهد النظام الدولي الراهن: ازدواجية في المبادئ، وتباين في المواقف، وتباطؤ في الفعل الإنساني رغم الصرخات لاستدعاء الضمير الدولي.
فبينما تتكاثر الضغوط الأممية والإقليمية، تظل الحلول مؤجلة بفعل غياب الإرادة السياسية وتضارب الأجندات لدى الفاعلين وإراداتهم المتعارضة، ومشروعهم المفخخ.
إنّ أي تسوية حقيقية لن تُكتب لها الحياة ما لم تنطلق من إرادة سودانية خالصة اساسها الاجندة الداخلية والواقع الميداني وراي القيادة السودانية بالبلاد، تُعيد الاعتبار لسيادة الدولة وأمنها القومي ، وتضمن العدالة وعدم الإفلات من العقاب ، وتضع حداً للحرب التي أرهقت الوطن وأضعفت نسيجه المجتمعي.
فالسودان بحاجة اليوم إلى دعمٍ صادق يضع الإنسان فوق الحسابات، ويستعيد الإيمان بأن السلام ليس صفقة بين أطرافٍ مسلحة، بل مشروع وطني جامع لإنقاذ الدولة نفسها من الانهيار، واهداف التمرد من وراء القتل والتدمير ماثلة للعيان..بين تكاثف الضغوط واستبطاء الحلول، يبقى السودان ضحية لعبة الأمم ومختبرًا لفشل النظام الدولي في حماية الشعوب. إنّ أي تسوية لا تنطلق من إرادة سودانية خالصة تُحترم فيها السيادة وتُقدَّم العدالة مباداة السيادة ، ستظل حبراً على ورق، وتفتح الباب أمام جولة جديدة من المآسي والكوارث، حسمتها تصريحات البرهان من عطبرة.
—————-
٢٠ أكتوبر ٢٠٢٥م