السفير.د.معاوية التوم _ الحرب والأمن الغذائي السوداني: القدرات والتحديات وفرص التعافي!؟

المقدمة
يمثل الأمن الغذائي في السودان قضية حيوية واستراتيجية، لا تقتصر أهميتها على البعد الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فالحرب المستمرة والمفروضة على البلاد منذ أبريل 2023 عطلت الإنتاج الزراعي، وأدت إلى نزوح واسع، وتدمير البنية التحتية، مما جعل ملايين السودانيين يعيشون في حالة من الهشاشة والفجوات الغذائية .
ورغم هذه التحديات، لا يزال السودان يمتلك مقومات طبيعية هائلة تؤهله لأن يكون بمقدوره صناعة الاكتفاء الذاتي وايضاً “سلة غذاء إقليمية”. الأراضي الزراعية الواسعة، والثروة الحيوانية الضخمة، والسواحل البحرية والبحيرات ومصادر المياه، إضافة إلى الأشجار الاقتصادية مثل الصمغ العربي والسمسم والكركديه وغيرها، كل هذه الموارد تمثل رصيدًا استراتيجيًا يمكن البناء عليه لإعادة الأمن الغذائي للبلاد وترتيب أولوياته وفق خطط مدروسة .
الموارد الغذائية الأساسية
السودان غني بالموارد الغذائية، التي تشمل الحبوب، البقوليات، الخضر، والفاكهة.
• الحبوب: الذرة والدخن تمثل الغذاء الرئيسي للريف، بينما القمح يزرع في ولايات الجزيرة والشمالية، لكنه لا يغطي سوى جزء من الاستهلاك المحلي، ما يجعل السودان يعتمد على الاستيراد.
• البقوليات: الفول السوداني، العدس، الفاصوليا، واللوبيا توفر بروتينًا نباتيًا هامًا، إضافة إلى استخدامها في صناعة الزيوت.
• الخضر: بكل أنواعها ، الطماطم، البطاطس، البصل والخضروات الورقية تنتج بكميات جيدة، لكنها تواجه تحديات التخزين والتوزيع، ما يؤدي إلى فقد كبير بعد الحصاد.
• الفاكهة: المانجو، الموز، البرتقال والليمون والقريب فروت، الجوافة، البطيخ والشمام والعنب توفر غذاءً متنوعًا محليًا، وتمثل فرصة للتصدير إذا تم تطوير نظم التعبئة والتبريد.
الثروة الحيوانية
يمتلك السودان واحدة من أكبر الثروات الحيوانية في المنطقة، حيث يقدّر القطيع بأكثر من 120 مليون رأس من الأبقار، الضأن، الماعز، والإبل.
• اللحوم: تلبّي الطلب المحلي وتصدر إلى بعض الأسواق الخليجية.
• الألبان: إنتاج محدود بسبب ضعف الصناعات الحديثة، ولا يغطي الحاجة الاستهلاكية.
• الجلود: تُصدّر غالبًا خامًا، ما يقلل القيمة الاقتصادية.
تواجه الثروة الحيوانية تحديات كبيرة بسبب الحرب، مثل النزوح، تهريب الحيوانات إلى دول الجوار، وانتشار الأمراض بسبب ندرة الأعلاف وغياب الرعاية الصحية البيطرية.
الدواجن
تشكل الدواجن جزءًا مهمًا من الأمن الغذائي في السودان، حيث تعد مصدرًا سريعًا للبروتين الحيواني للمستهلك المحلي. يمتاز هذا القطاع بإمكانية النمو السريع مقارنة بالثروة الحيوانية الكبيرة، إذ يمكن تحسين الإنتاجية عبر إدخال السلالات المحسنة، وتطوير نظم التربية والتغذية، والتقانة وتوفير خدمات بيطرية فعّالة. كما توفر تربية الدواجن فرص عمل واسعة للمزارعين الصغار، وتساهم في تقليل الضغط على الأبقار والأغنام، وبالتالي دعم التنوع الغذائي والاستقرار الغذائي المحلي
الثروة السمكية
يمتلك السودان ساحلًا على البحر الأحمر بطول 720 كلم، إضافة إلى النيل وروافده والخزانات الصناعية مثل الروصيرص ومروي وسنار.
• الصيد البحري والنهرية تقليدي، والإنتاج محدود.
• غياب بنية تحتية حديثة للتخزين والتوزيع يحد من الإمكانات.
• رغم ذلك، يوفر القطاع إمكانات كبيرة لتطوير الاستزراع السمكي وزيادة الإنتاج المحلي والتصدير، إذا ما تم الاستثمار بشكل فعّال.
الأشجار الاقتصادية والمنتجات ذات القيمة المضافة
• الصمغ العربي: السودان ينتج نحو 70% من الإنتاج العالمي، ويستخدم في الصناعات الغذائية والدوائية والتجميلية.
• السمسم: محصول نقدي استراتيجي، يدخل في إنتاج الزيوت والحلويات، وله أسواق تصديرية.
• الكركديه والفول السوداني: منتجات غذائية وصناعية لها قيمة محلية وتصديرية.
المشكلة الرئيسية تكمن في أن معظم هذه الموارد تُصدّر خامًا، ما يقلل من القيمة الاقتصادية الحقيقية. إدخال التصنيع المحلي يمكن أن يضاعف العوائد ويوفر فرص عمل.
التحديات الراهنة
يواجه السودان عدة تحديات تؤثر على الأمن الغذائي ابرزها :
1. الحرب والنزوح: ملايين المزارعين والرعاة غادروا أراضيهم، مما أدى إلى توقف الإنتاج في مناطق واسعة.
2. البنية التحتية: تدمير شبكات الري، التخزين، وغياب النقل الآمن.
3. الاستثمار: انسحاب الاستثمارات الأجنبية وتراجع التمويل المحلي.
4. التغير المناخي: الجفاف، التصحر، وعدم انتظام الأمطار يزيدان من هشاشة القطاع.
5. التبعية الغذائية: استمرار الاعتماد على الاستيراد خاصة في القمح والزيوت.
الفرص المستقبلية وإمكانات التعافي
رغم التحديات، تظل الإمكانات موجودة:
• إعادة الإعمار الزراعي: إدخال الري الحديث وتقنيات الزراعة المستدامة.
• التصنيع الغذائي: تحويل المنتجات الخام إلى منتجات ذات قيمة مضافة.
• تطوير الثروة الحيوانية: إنشاء مزارع حديثة، تحسين الإنتاج وتوسيع صادرات اللحوم والألبان.
• الثروة السمكية: الاستثمار في الاستزراع الصناعي وتوسيع أسواق التصدير.
• الشراكات الإقليمية والدولية: تعزيز موقع السودان كمصدر غذاء استراتيجي للمنطقة
الخاتمة.
الحرب الحالية عطلت الأمن الغذائي في السوداني في كلياته ، لكنها لم تمح مقوماته الأساسية. فالأراضي الزراعية الواسعة، والثروة الحيوانية الضخمة، والسواحل البحرية الغنية، والأشجار الاقتصادية مثل الصمغ العربي والسمسم والكركديه، جميعها تمثل فرصًا استراتيجية لإعادة بناء المنظومة الغذائية وسلاسلها. فضلا عن القدرات والكفاءات والخبرات العلمية والتقنية التي تزخر بها البلاد.
المطلوب إعادة الأمن الغذائي الوطني وفق استراتيجية وطنية طموحة تأخذ بالوضعية الاستثنائية وآثارها، تضم كافة قطاعاته ضرورة ملحة، تتطلب جملة من السياسات المتكاملة: تطوير البنية التحتية الزراعية والسمكية والدواجن وصناعة الأعلاف والمضافات التكميلية، إدخال التكنولوجيا الحديثة، الاستثمار في التصنيع الغذائي، وتحسين التسويق والتصدير. كما أن إشراك المجتمع المحلي والمنظمات غير الحكومية والشراكات الإقليمية والدولية يُعد عاملًا حاسمًا في تعزيز مرونة النظام الغذائي واستدامته.

في النهاية، الأمن الغذائي في السودان ليس حلمًا بعيد المنال، ولكنه اساس النهضة واستعادة المبادة لهذا القطاع الحيوي الانتاجي وفير المردود. وذلك رهين بقدرة الدولة والشعب والغرفة التجارية والصناعية والزراعية على المستويين الرسمي والخاص، على بذل الجهد وحشد الخطى والموارد والإمكانات لاعادة حيوية استثمار الموارد الطبيعية والبشرية وتحويل التحديات إلى فرص استراتيجية لتعزيز الاقتصاد الوطني وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي، والمساهمة في أمن الغذاء الوطني والإقليمي.