وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي أنقرة والدوحة: مسار محتمل لسلام السودان

الحرب التي تعيشها بلادنا منذ أبريل 2023، والتي أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف وتشريد نحو 13 مليون شخص وانهكت اقتصاد البلاد ، فرضت واقعًا معقدًا جعل الحاجة إلى مسار تفاوضي بديل أمرًا ملحًّا.

أمام هذا الخزلان و العجز السياسي الإقليمي والدولي تبرز تركيا وقطر عبر مسار تفاوضي محتمل يستند إلى فهم طبيعة الصراع، ورغبة جادة في الوصول إلى حلول لا تتجاهل الدولة ولا تُكافئ التمرد.

تكمن أهمية التوقيت الحالي في عدة عناصر. أولها توافق الرؤية بين أنقرة والدوحة حول طبيعة الصراع في السودان، فهما تتفقان على أن المواجهة ليست حرباً بين طرفين متكافئين، بل هي تمرد من قوات الدعم السريع ضد الدولة، وهو تعريف يحرر أي مسار وساطة من الانحياز المخزي ويضع الضغوط على المتمردين مع الحفاظ على الدولة.

ثانيها الانفتاح على الحوار الواقعي، إذ لا تحمل تركيا وقطر أطر مصالح مسبقة أو مواقف ذات اجندة، بل ينطلقان من ضرورة التوصل إلى سلام مستدام عبر التفاوض المباشر، دون فرض خارطة طريق مسبقة، كما تحاول الرباعية. هذا التوجه يجعل من الممكن جمع الأطراف السودانية في جلسات تفاوضية، تركز على حماية المدنيين واستعادة استقرار الدولة.

كما يمثل الدور التركي-القطري فرصة لاستثمار الفراغ السياسي الدولي الناتج عن فشل الرباعية في تقديم حلول مقبولة داخلياً. فتنسيق المواقف بين أنقرة والدوحة، بناءً على تجارب قطر السابقة في اتفاقيات سلام في دارفور، يمكن أن يوفر أفقاً أكثر واقعية، يسمح بالوصول إلى سلام .

الأهمية العملية لهذا التوجه تكمن في أن تعريف الحرب بشكل صحيح يمكّن من صياغة حلول ملموسة: حماية المدنيين، إعادة بناء مؤسسات الدولة، وضمان استقرار السلطة المركزية، بدلاً من الاكتفاء بمقاربات عسكرية أو سياسية بائسة. هذا النهج يوفر أرضية أفضل لأي اتفاق سياسي مستدام، ويضع مصلحة الشعب السوداني في المقام الأول.

في هذا الإطار جاءت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالأمس في اجتماع “الكومسيك” بإسطنبول وفي لقاءاته الصحفية عقب عودته من أذربيجان، التي أكّد فيها أن تركيا لا يمكن أن تبقى صامتة إزاء المجازر في الفاشر، وأن حماية وحدة الأراضي وسيادة السودان مسؤولية العالم الإسلامي، لتؤكد اهتمام أنقرة الفعلي بتحقيق سلام دائم.

في المقابل، قطر تمتلك خبرة عملية في إدارة الأزمات السودانية ، وهي اليوم قادرة على تقديم منصة حوارية محايدة، في ربط الأطراف السودانية أو تنسيق الجهود الإقليمية والدولية.

دعوة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني مطلع الأسبوع لوقف الحرب، وتحذيره من تداعيات الفظائع في الفاشر، تعكس استراتيجية مستمرة لاستثمار الضغط الإنساني والسياسي لتسهيل حلول سلمية قابلة للتطبيق.

أما على مستوى التوازن الدولي، فإن تحركات مستشار الرئيس الأميركي مسعد بولس وتنسيقه مع قطر تكشف عن انفتاح أميركي غير معلن على مسارات بديلة، بشرط مراعاة الوضع الإنساني ، وهو ما يجعل من المسار التركي–القطري خيارًا واقعيًا يمكن البناء عليه إذا ما مُنح الغطاء الدولي اللازم دون تجاوز السيادة السودانية.

في هذا الإطار تعود المبادرة التركية السابقة التي طرحها أردوغان بإمكانية جمع الرئيس البرهان مع محمد بن زايد إلى الواجهة السياسية، بعدما أشار في اتصالاته السابقة مع البرهان إلى إمكانية وساطة تركيا لحل النزاع بين السودان والإمارات، على نحو مشابه لدورها في إحلال السلام بين الصومال وإثيوبيا.

المراقبون يشيرون إلى أن هذا الطريق المباشر بين الخرطوم وأبوظبي قد يكون الأقصر والأكثر واقعية لإنهاء الحرب، إذ يضع المبادرة التركية في صلب محاولة إعادة تعريف دور الأطراف الإقليمية والدولية، بحيث تركز على إنهاء دعم الإمارات للمليشيا ووقف تدخلها المباشر في الشؤون السودانية، بما يمكن السودان على إدارة النزاع داخلياً عبر مؤسساته .

لكن نجاح هذه الوساطة يرتبط بعدة عوامل حاسمة، أبرزها: قبول الطرفين بالمبادرة، الثقة الإقليمية بقدرة تركيا على الحفاظ على حيادها، والدعم الدولي للمسار، خصوصاً مع وجود إشارات للتنسيق مع الولايات المتحدة.

على الجانب السوداني، فإن قيادة الدولة تحت الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان تحتاج إلى استثمار هذه المبادرة لتأمين حل يحمي السيادة الوطنية ويوقف الحرب دون التنازل عن مصالح السودانين، مع إشراك القوى السياسية في عملية إعادة بناء السودان بعد انتهاء الحرب .

يمكن القول إن أنقرة والدوحة تمثلان مساراً محتملاً لسلام السودان، قادر على تجاوز مأزق الرباعية الدولية من خلال تقديم مقاربة أكثر فاعلية تستند إلى فهم دقيق للتوازنات الداخلية والخارجية، مع التركيز على تعريف سردية الحرب، ووقف تدخلات الأطراف الإقليمية التي أطالت أمدها . المبادرة التركية إذا ما أحسن استثمارها بالتنسيق مع والجهات الإقليمية والدولية الداعمة للسلام، قد تشكل خطوة نوعية نحو إيقاف نزيف الدم، واستعادة استقرار السودان، وإعادة الأمل لشعبه المنهك من ويلات الحرب.

إن قراءة المشهد السوداني بحسب #وجه_الحقيقة بهذا العمق تكشف أن مسار أنقرة والدوحة، سواء ضمن الرباعية أو مستقلاً عنها، يمثل أقرب سبيل لتجنيب البلاد ويلات الحرب و الابتزاز الخارجي ، ويمثل فرصة حقيقية لإعادة بناء مؤسسات الدولة وحماية المدنيين، ما قد يمهد لسلام مستدام يضمن وحدة السودان وسيادته واستقراره السياسي والاجتماعي.

دمتم بخير وعافية.

الاثنين 10 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com