م. أحمد الدفينة يكتب _ملف الإقتصاد الوطني – القسم الثاني من سلسلة* *السودان بعد الحرب.. الفرص والتحديات

*

*الجزء التاسع: الخطة العشرية لإقتصاد منتج ومستقر (2026–2036م)*

*خارطة طريق طويلة الأجل تعتمد على العدالة والإنتاج والكفاءة*

*1. مقدمة*

تشكل السنوات العشر القادمة (2026-2036) الفرصة التاريخية التي لا ينبغي أن تهدر لإعادة بناء الإقتصاد السوداني على أسس جديدة تتجاوز معادلات الفشل القديمة التي إعتمدت على الريع والجباية والإعتماد المزمن على المعونات والقروض المشروطة. تأتي هذه الخطة العشرية كإستجابة إستراتيجية شاملة لما فرضته الحرب من واقع إقتصادي وإجتماعي مأزوم وتعد محاولة لتقديم خارطة طريق منهجية تنقل السودان من إقتصاد هش وإستهلاكي وغير مستقر إلى إقتصاد منتج وعادل ومستدام.

لقد كشفت الحرب عن مدى هشاشة المنظومة الإقتصادية وعن غياب أي بنية إنتاجية حقيقية قادرة على الصمود أمام الصدمات وأكدت التجربة أن الرهان على المعونات مهما طال لا يمكن أن يصنع دولة فالبلدان لا تنهض إلا بالإنتاج ولا تتحرر إقتصاديا إلا بالتصدير ولا تستقر ماليا إلا بالحكم الرشيد والحوكمة.

ولهذا فإن هذه الخطة لا تتعامل مع الإقتصاد بوصفه مجرد أرقام بل بإعتباره منظومة متكاملة من السياسات والمؤسسات والثقافة الإنتاجية والعدالة في توزيع الموارد، هذه الخطة تراعي الواقع القائم لكنها تتطلع إلى المستقبل من منظور التنمية الشاملة وليس الموازنات المحاسبية فقط.

كما تقوم هذه الخطة على دمج الإقتصاد بالمجتمع والسياسة فبدون الإستقرار السياسي والإجتماعي لا يمكن للإقتصاد أن يزدهر وبدون التوزيع العادل للفرص والموارد ستبقى التنمية محصورة في جزر معزولة مهددة بالإنفجار في كل لحظة.

لقد أظهرت تجارب الدول الخارجة من النزاعات أن السنوات الأولى بعد الحرب هي لحظة التأسيس الحقيقية إما أن تستغل لخلق مسار تنموي جديد أو تهدر وتعاد معها دورة الإنهيار ولكن هذه المرة بتكلفة أعلى وأمل أقل.

وعليه تسعى هذه الخطة إلى تقديم إطار عملي واقعي ولكنه طموح يقوم على المحاور التالية:
1. إعادة هيكلة الإقتصاد ليرتكز على الإنتاج.
2. تعزيز دور القطاع الخاص الوطني والمغتربين في التنمية.
3. خلق فرص عمل واسعة من خلال سلاسل القيمة الإنتاجية.
4. بناء منظومة مالية شفافة وعادلة.
5. تسخير التحول الرقمي في دفع النمو ومكافحة الفساد.
6. بناء شراكات إقتصادية إقليمية ودولية إستراتيجية.
7. ضمان إستدامة الموارد الطبيعية للأجيال القادمة.

إن الخروج من الأزمة الحالية ليس مستحيلا لكنه يتطلب إرادة سياسية ورؤية إقتصادية ومشاركة شعبية واعية، والخطة العشرية المقترحة ليست وثيقة مغلقة بل دعوة للحوار والتوافق الوطني حول نموذج إقتصادي جديد يخرج السودان من ”إقتصاد الحرب“ إلى ”إقتصاد الحياة“.

*تعتمد هذه الخطة على الرؤية التالية:*

بناء إقتصاد وطني منتج وعادل ومستقر يحقق الكرامة للمواطن ويعيد السودان لمكانته في خارطة التنمية الإقليمية والدولية.

*2. الأهداف الإستراتيجية للخطة*

1. تحقيق أمن إقتصادي شامل عبر الإكتفاء الذاتي في الغذاء والطاقة والخدمات الأساسية.
2. زيادة مساهمة الإنتاج الحقيقي في الناتج المحلي ليصل إلى 65% بحلول 2036م.
3. تحقيق إستقرار مالي ونقدي طويل الأجل بخفض التضخم إلى خانة الآحاد وثبات سعر الصرف.
4. خلق فرص عمل واسعة عبر الإقتصاد الحقيقي لدمج مليون شاب في قطاعات الإنتاج والخدمات.
5. زيادة الصادرات غير البترولية بمعدل 20% سنويا.
6. بناء نظام إقتصادي شفاف وخاضع للمساءلة يقوم على الشفافية الرقمية والكفاءة.

*3. الجدول الزمني المرحلي*

*أ- مرحلة قصيرة المدى:*
* مدتها سنتين (2026-2028م).
* مهمتها (الإنعاش وإعادة التوازن – الأمن الغذائي – دعم العملة – إستعادة الثقة – تشغيل الطوارئ)

*ب- مرحلة متوسطة المدى:*
* مدتها: ثلاث سنوات (2029-2032م).
* مهمتها: (التحول الهيكلي الإقتصادي – التصنيع الزراعي – إصلاح الضرائب – تحديث البنية التحتية – الإقتصاد الرقمي).

*ج- مرحلة طويلة المدى:*
* مدتها ثلاث سنوات (2033-2036م).
* مهمتها الإستدامة والمنافسة الإقليمية.

*4. المحاور الرئيسية*

*المحور الأول: المالية العامة والحوكمة*

*- الأهداف:*
* زيادة الإيرادات من الإنتاج والخدمات بدل الضرائب الإستهلاكية.
* ضبط الإنفاق العام وتوجيهه نحو الأولويات التنموية.
*- أدوات التنفيذ:*
* إصلاح النظام الضريبي ليصبح تصاعديا وعادلا.
* إيقاف الإمتيازات غير الإنتاجية (عربات، سفر، مخصصات).
* ربط المصروفات بأنظمة متابعة إلكترونية (ERP).
*- مؤشرات الأداء:*
* نسبة العجز من الناتج المحلي.
* نسبة الإنفاق على التعليم والصحة من الميزانية.

*المحور الثاني: القطاعات الإنتاجية (الزراعة – الصناعة – التعدين)*

*- الأهداف:*
* رفع إنتاجية الفدان بنسبة 100% خلال 5 سنوات.
* إدخال مليون فدان ضمن الزراعة الحديثة.
* مضاعفة مساهمة الصناعة في الناتج المحلي.
*- أدوات التنفيذ:*
* إنشاء مناطق إنتاج زراعي وصناعي متكاملة.
* تمويل المزارعين عبر مصارف متخصصة وشراكات.
* دعم التصنيع الزراعي والتحويلي وتوفير الطاقة له.
*- مؤشرات الأداء:*
* عدد المشروعات الإنتاجية العاملة.
* الإنتاجية لكل قطاع.

*المحور الثالث: الإستثمار والتصدير*

*- الأهداف:*
* إستقطاب 5 مليار دولار إستثمارات مباشرة خلال 10 سنوات.
* دخول منتجات سودانية إلى 50 سوق عالمي جديد.
*- أدوات التنفيذ:*
* إطلاق قانون جديد للإستثمار يعطي ضمانات حقيقية.
* تسهيل حركة الصادر والإعفاءات الضريبية للصناعات التصديرية.
* إنشاء هيئة وطنية موحدة للصادرات.
*- مؤشرات الأداء:*
* حجم الإستثمار الأجنبي المباشر سنويا.
* عدد الشركاء التجاريين الدوليين.

*المحور الرابع: السياسة النقدية وسعر الصرف*

*- الأهداف:*
* إستقرار سعر الصرف وتوحيد السوق.
* كبح التضخم إلى أقل من 10% بحلول 2030.
*- أدوات التنفيذ:*
* إصلاح إستقلالية البنك المركزي.
* ضبط الكتلة النقدية وربطها بالإنتاج.
* إنشاء صندوق إستقرار العملة بالنقد الأجنبي.
*- مؤشرات الأداء:*
* سعر صرف الجنيه أمام الدولار.
* معدل التضخم السنوي.

*المحور الخامس: التشغيل وتمكين الشباب*

*- الأهداف:*
* تشغيل مليون شاب خلال 10 سنوات.
* خفض البطالة إلى أقل من 12%.
*- أدوات التنفيذ:*
* برامج تمويل صغيرة إنتاجية عبر الصناديق المحلية.
* تشغيل مشروعات البنية التحتية بكثافة عمالية.
* تحفيز ريادة الأعمال والإبتكار التقني.
*- مؤشرات الأداء:*
* معدل البطالة الرسمي.
* عدد الوظائف الجديدة سنويا.

*المحور السادس: الإقتصاد الرقمي والحوكمة الإلكترونية*

*- الأهداف:*
* رقمنة 80% من المعاملات الحكومية بحلول 2032.
* زيادة الشفافية ومكافحة الفساد.
*- أدوات التنفيذ:*
* الحكومة الإلكترونية وربط المؤسسات بنظام مركزي موحد.
* الهوية الرقمية الوطنية وربطها بالخدمات.
* دعم شركات التقنية المحلية.
*- مؤشرات الأداء:*
* عدد الخدمات الرقمية.
* ترتيب السودان في مؤشرات الشفافية الدولية.

*5. آليات التنفيذ والمتابعة*

* إنشاء مجلس أعلى للتخطيط الإقتصادي الوطني يتبع لمجلس الوزراء مباشرة.
* صياغة قانون إستدامة السياسات الإقتصادية لضمان الإستمرارية.
* إصدار تقارير أداء نصف سنوية تنشر للرأي العام بشفافية.
* إشراك الجامعات والقطاع الخاص في كل مراحل التنفيذ.

*6. مؤشرات النجاح في نهاية الخطة (2036)*

* مؤشر نمو الناتج المحلي (+6% سنويا).
* مؤشر نسبة الصادرات من الناتج (30%).
* نسبة التضخم (< 8%). * إستقرار سعر الصرف (+/- 10%). * عدد العاملين في الإقتصاد الحقيقي (+3 مليون). * نسبة التغطية الرقمية للخدمات (90%). * تصنيف السودان الإئتماني (A أو أعلى B). *الرسالة الختامية:* الخطة العشرية التي نقدمها اليوم ليست مجرد أرقام ومؤشرات إقتصادية ولا مجرد برامج مرحلية للحكومات المتعاقبة بل هي تعبير عن إرادة وطنية شاملة تنشد بناء وطن يستحقه هذا الشعب الصابر. هذه الخطة تنبع من قناعة عميقة بأن السودان لا يفتقر إلى الموارد ولا إلى القدرات البشرية بل يعاني من سوء التدبير وغياب الرؤية الجامعة وتراكم عقود من السياسات العشوائية التي صنعت إقتصاد هش غير منتج وغير عادل. إننا لا نحتاج إلى إعادة إختراع العجلة بل نحتاج إلى إعادة ترتيب أولويات الدولة من إقتصاد الجباية والإستهلاك إلى إقتصاد الإنتاج والتصدير، ومن الإعتماد على الخارج إلى توطين الثقة بالداخل، ومن الإستثناءات والمحسوبيات إلى قواعد الشفافية والتنافس العادل. *- هذه الخطة تقول بوضوح:* إذا أردنا الكرامة.. فعلينا أن ننتجها. وإذا أردنا السيادة.. فعلينا أن نمولها من عرقنا وليس من قروض الآخرين. وإذا أردنا التنمية.. فعلينا أن نخلقها بسواعدنا لا أن ننتظرها من مؤتمرات المانحين. الفرصة ما زالت قائمة ولكنها لن تنتظر طويلا وكل تأخير في تنفيذ الإصلاحات يعني سنوات أخرى من البطالة والتدهور والنزيف. *- الرسالة موجهة إلى الجميع:* * *للحكومة:* أن تتحلى بالشجاعة السياسية لتطبيق إصلاحات حقيقية مؤلمة أحيانا لكنها ضرورية. * *للقطاع الخاص:* أن يشارك ليس كمستفيد فقط ولكن كشريك في بناء وطن مستقر ومنتج. * *للشباب:* أن يروا في هذه الخطة فرصة لمستقبل مختلف وليست مجرد وعود مؤجلة. * *للمجتمع الدولي:* أن يعامل السودان كدولة تسعى للنهوض وليس عبء دائم على المعونات. *السودان يستحق أن يدار بعقلية التنمية وليس بعقلية إدارة الأزمة.. والمستقبل لا ينتظر بل يصنع.* *لنبدأ الآن بخطوة عملية وواقعية.. برؤية تستنهض موارد البلاد من أجل إنسانها.* *م. أحمد الدفينة* *رئيس قوى الوفاق الوطني (وطن)* *11 أغسطس 2025م*