عمار العركي… يكتب… تركيــا تحضــر فــي الخـرطوم والفاشـر: قـراءة في دلالات مـوقــف أنقــرة في زمـن الحـرب

في زمن الحرب، تتزاحم الملفات الملتهبة وتتعدد الأولويات ما بين المعارك الميدانية، والأوضاع الإنسانية الكارثية، والتحركات السياسية والدبلوماسية. وقد يبدو تناول العلاقات مع دولة بعينها – مثل تركيا – ترفًا أو انحرافًا عن القضايا الأكثر إلحاحًا. غير أن المتابع الدقيق يدرك أن التحولات الكبرى في مواقف الفاعلين الدوليين خلال الحرب، تحمل في طياتها إشارات مهمة، وتكشف عن اتجاهات قد تؤثر في مآلات الصراع نفسه. وفي هذا السياق، تفرض تركيا نفسها كحالة لافتة تستحق التوقف عندها، خاصة في ضوء تحركات سفيرها في السودان مؤخرًا.

المشهد الأول: تصريحات لا تصدر إلا من صديق_

في الوقت الذي اعتذر أو تهرّب فيه سفراء دول عديدة عن الحديث المباشر للإعلام السوداني، اختار السفير التركي أن يمنح الصحافة السودانية حوارًا صريحًا ، كسر فيه حاجز الحذر الدبلوماسي، ووجّه رسائل علنية أكدت تضامن بلاده مع السودان شعبًا ودولة، حسب حواره المطول مع الاستاذ طارق شريف رئيس تحرير مجلة حواس السودانية المتخصصة .

المشهد الثاني: زيارة الخرطوم رغم عزوف الآخرين_

بينما فضّلت معظم السفارات إغلاق مقارها أو نقل نشاطها خارج العاصمة، قام السفير التركي بزيارة إلى الخرطوم، في جولة ميدانية هدفت لتلمّس الظروف الأمنية، وبحث إمكانية إعادة نشاط السفارة من مقرها الرسمي، في خطوة تحمل دلالات سياسية وشجاعة دبلوماسية لافتة.

المشهد الثالث: دلالات الموقف التركي المزدوج – الخرطوم والفاشر

في تطور لافت، جاءت زيارة السفير التركي إلى العاصمة القومية المحررة الخرطوم لتفقد الاوضاع عن كثب وتلمس سبل عودة السفارة للخرطوم ، ليكون أول حضور دبلوماسي رفيع بهذا المستوى بعد التحرير . الزيارة حملت رسائل رمزية وسياسية قوية، أبرزها تثبيت الاعتراف بالشرعية الميدانية للحكومة السودانية، وكسر صورة العزلة التي يحاول خصوم السودان تكريسها.

لكن اللافت أكثر كان الموقف الذي عبّر عنه السفير التركي على منصة X بشأن الوضع في الفاشر، حيث كتب نصًا: “وفقًا لصحيفة الغارديان، قُتل 1500 شخص في يوم واحد فقط في مخيم زمزم بالفاشر، الذي لا يزال محاصرًا. يبدو أن البوصلة الأخلاقية للمجتمع الدولي قد تضررت بشكل لا يمكن إصلاحه بسبب أحداث السودان. للأسف، بالنسبة للعديد من الدول، لا تُعد أرواح السودانيين الأبرياء التي أُزهقت سوى أرقام. ويتساءل الكثيرون: من يُحصي الأرواح التي أُزهقت؟ في تركيا، نواصل إحصاءها. وسنواصل رفع أصواتنا والتحرك من أجل هذه الأرواح البريئة.”

هذه العبارات، بوضوحها وصرامتها، تمثل اصطفافًا أخلاقيًا وإنسانيًا إلى جانب السودان في واحدة من أكثر لحظات الحرب حساسية. هذا الموقف المزدوج – دعم ميداني للخرطوم ورسالة إنسانية قوية بشأن الفاشر – يفتح أمام الحكومة السودانية فرصة استراتيجية لتعميق التنسيق مع أنقرة.

الربط بالمواقف الدولية الأخرى: غياب المواقف… وصمت مريب_

في المقابل، اتسمت مواقف عدد من البعثات الدبلوماسية الأخرى في السودان، وخاصة تلك التابعة لقوى إقليمية ودولية فاعلة، بالتردد، أو الاكتفاء بتصريحات عامة شديدة الحذر، أو حتى الغياب التام عن المشهد في بعض الأوقات. هذا الصمت أو التردد أعطى تركيا، التي لم تخف موقفها وإنسانيتها، مساحة أكبر لتعزيز صورتها كحليف موثوق وحاضر.

ما الذي يجب أن تقوم به الخرطوم تجاه أنقرة؟

هذا الموقف التركي النادر في زمن الحرب يستحق أن تتعامل معه الخرطوم بمنهجية استراتيجية، تبدأ بتفعيل قنوات التواصل السياسي رفيع المستوى، وتوسيع مجالات التعاون الإنساني، ودعم حضور تركيا في مشاريع إعادة الإعمار والمساعدات العاجلة. كما ينبغي إظهار الامتنان الرسمي عبر خطوات عملية، منها تسهيل عمل البعثة التركية ميدانيًا، وإشراك أنقرة في المشاورات الدولية الخاصة بإنهاء الحرب، بما يعكس أن السودان يقدّر من يقف معه في أوقات الشدة.

المطلوب من الخرطوم الآن أن تبادر بخطوات عملية، من بينها:

صياغة رؤية شراكة متقدمة مع تركيا، تتضمن ملفي الإعمار والدعم الإنساني بجانب التعاون العسكري والأمني.

استثمار الموقف التركي في المحافل الدولية لإسناد الموقف السوداني أمام الضغوط الغربية والأممية.

تنظيم زيارة رسمية رفيعة المستوى إلى أنقرة وتوسيع مجالات التعاون، بما يثبت أن الخرطوم تتعامل بذكاء مع كل دعم حقيقي يصلها.

_خــلاصـة الـقـول ومنـتـهـاه :_

في مشهد الحرب السودانية المزدحم بالأطراف الدولية، تتحرك تركيا بخطوات محسوبة، لكنها ذات أثر، تجمع بين الجرأة الدبلوماسية والحضور الإنساني. زيارة السفير إلى الخرطوم وتصريحاته عن الفاشر ليست مجرد مواقف عابرة، بل مؤشرات على توجه قد يتسع نطاقه، وربما يضع أنقرة في موقع مختلف عن كثير من اللاعبين الدوليين في الملف السوداني