عرفت محجوب محمد صالح لأول مرة من خلال كتابه عن تاريخ الصحافة السودانية وانا طالب دراسات عليا بجامعة الخرطوم مبعوثا من الإذاعة السودانية ، لم تتح لجيلي معرفته كصحفي مؤسس لصحيفة الأيام .. كان مدخلي لمعرفته عن قرب حوارا اجريته معه للإذاعة حول دور الصحافة والصحفيين في معركة استقلال السودان ، لفت انتباهي حضوره الذهني الطاغي ومقدرته علي السرد بمعلومات دقيقة فضلا عن موضوعية وحياد وربما شجاعة في الطرح دون أن يحابي او يجامل ، فبدد لدي نصح زملائي بأن ابتعد عن هذا الحوار مع شخصيات محسوبة علي المعارضة لنظام صادر صحفهم ، بعد انتهاء المقابلة التي كانت بمكتبه العتيق المواجه لمبني المديرية بشارع الجامعة ، مجلس الوزراء حاليا ، ودعني قائلا باشفاق ” الكلام دا بذيعو ليك ؟ ” وبالفعل اذيعت تلك الحلقة اكثر من مرة ولعلها ماتزال محفوظة ضمن أرشيف الإذاعة الصوتي .. بعد سنوات من هذا اللقاء اسعدني الحظ بأن كنت ضمن طاقم صحيفة الأيام بعد أن عادت ملكيتها لأصحابها بشير والمحجوبين هكذا كان يشار لاسم المُلّاك الثلاثة ، كانت تلك علي ايام ماسمي بحقبة الديمقراطية الثالثة والتي شهدت فيها الصحافة انتعاشا وتطورا ملموسا في مجال الحريات ، وكانت المنافسة علي اشدها بين عشرات الصحف صدرت آنئذ ، وكانت ( الايام) في المقدمة كالعهد بها ، تولي محجوب م صالح رئاسة التحرير فيما تولي الادارة بشير محمد سعيد ، كان مججوب رحمه الله شديد الحرص علي أن تكون الصحيفة مستقلة فعلا لا قولا وأن تبتعد قدر الإمكان عن تجاذبات تلك ألفترة وصراعتها السياسية ، وكان لا يجامل مطلقا في مبادئه المهنية ، إذ يشرف بنفسه علي كل الصفحات خاصة الصفحة الأولى ، يعود مساء ليقف علي آخر الأخبار ، ويطلع عليها جميعا ثم يكتب الافتتاحية معلقا علي اهمها ، كان يكتب افتتاحية الصحيفة في أقل من خمس دقائق لا يتوقف القلم خلالها الا عند آخر نقطة .. ثم يحرص أن يكتب المانشيت ، وهو العنوان الرئيسي للصحيفة بنفسة في كلمات معدودات لا تتجاوز الاربع او الخمس كلمات ، ثم يتفرغ بعد ذلك لعموده أصوات واصداء ، الذي غالبا ما يتضمن بتوسع وتفصيل موضوع الافتتاحية ويستعرض فيه رايه ووجهة نظره الشخصية ، باعتبار أن الافتتاحية Editorial تعبر عن رأي الصحيفة ، وماكانت الصحف الأخرى تهتم بالافتتاحية كما تفعل الأيام ..
بعد انقلاب ٣٠ يونيو تم تعليق الصحف بمافيها الأيام ، واذكر أن تمت دعوتنا لاجتماع مع رئيس التحرير الاستاذ محجوب محمد صالح ، الذي قدم شرحا مفصلا للمجتمعين بشأن مآلات الوضع السياسي بالبلد ، وموقف الصحيفة ومصير العاملين فيها ، وقرر في ذلك الاجتماع أن يتم الاستمرار في دفع مرتبات العاملين بماهو ممكن ومتيسر في حزانة المؤسسة ،خاصة انه ابلغنا بأن الأرصدة المالية للصحيفة وكل الصحف تم تجميدها وفقا لماجاء في قرار تعليق صدورها ، ثم اعلن في ذات الاجتماع بروح ابوية انه علي استعداد لمساعدة اي من الزملاء لالحاقه باي وظيفة يرغب في الالتحاق بها ، وبالفعل اذكر انه ساعد بعضنا في العمل بادارات العلاقات العامة بالبنوك ومؤسسات أخرى قدر استطاعته من منطلق علاقاته الشخصية بمديري تلك المؤسسات ..
تلك كانت بعضا من ملامح شخصية الراحل الكبير المهنية استاذنا محجوب محمد صالح التي عايشتها وعشتها لأكثر من عامين ، احسب أنني ظفرت فيها بما ابتغيت وأردت وانا حديث عهد بالصحافة المكتوبة ، وهو التعلّم والتدريب علي أصول وقواعد مهنة بالغة الأهمية لتاثيرها المباشر علي حياة الناس وتشكيل رؤاهم بكل أدوات المعرفة والاستنارة ، ولعل ذلك كان ديدن الأيام الصحيفة ، فلا مال فيها ولا نجومية ، فقط أن تنال قلادة شرف الانتماء لعمالقتها وحداة ركبها ، ألم اقل لكم إنني كنتُ محظوظا ؟؟
برحيل محجوب تنطوي صفحات خالدات من تاريخ السودان الحديث لا تاريخ الصحافة وحده ، وما يضاعف الحزن علي فراقه انه رحل في منفاه القسري بعيدا عن وطنٍ أفنى زهرة عمره وكل حياته في خدمته وفاءً للمبادئ التي آمن بها دون عصبية او تجمّد ، وبعيدا عن ( بحري) وطنه الآخر وحلة حمد حيث الميلاد والنشأة من والدٍ عاملٍ بسيط في مصلحة الوابورات التي ماتت هي الأخرى بل قُتلت مع سبق الإصرار والترصد ، عزائي في محجوب للسودان أولا وبحري وحلة حمد وفريق الميري وحلة الدناقلة شمال ، ولسكان الصافية ، ولتلاميذه الكُثر خاصة الذين زاملتهم في الأيام دينمو الصحيفة محمد لطيف ومساعدته صباح آدم ، ثم لابنائه نادر وعادل ووائل واخوانهم ، سائلا المولي عزّ وجل أن يحسن قبوله ويتغمده بواسع رحمته وينزله رفقة الصالحين من عباده في الفردوس الاعلي من الجنة ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ،،
١٦ فبراير ٢٠٢٤ / أسوان————
