كنت في ذلك اليوم الممطر ، هائما في صحراء نفسي. عجبت كيف لا يبلل القطر صحراء نفسي وأنا في جو مطير واحساس نوراني بهيج متوجها مع جمع غفير من سكان العالم إلى قصر النبي سليمان في القدس. من بعيد ، نبهني طير أخضر حلو البسمة ، بهيج الوجه إلى دخان معطر يتصاعد من شرفات القصر وحجاب يلبسون ثيابا خضر يحملون مباخر عظيمة ينطلق منها بخور يماني عبق الرائحة . كانت كل الطرق الى القصر الملكي النبوي محفوفة بمزهريات من الذهب ولآلئ مدهشة لم تقع عليها عين بشر من قبل تطرزها أشكال وزخارف من مختلف حقب الحياة علمت أن الجن صادها من كل بحار العالم بأمر من النبي.
من بعيد ، كانت هناك قوة من الحرس اليمني تتجه نحو القصر تتوسطها عربة ملكية مذهبة الجوانب قيل لي أنها عربة الملكة بلقيس وموكبها المذعن المتجه إلى الحضرة النبوية بعد مراسلة بينها وبين النبي قادت إلى قدومها إلى قصر النبي الحكيم. كانت الملكة تحادث بعض وزرائها أنها رأت فيما يرى النائم ، بيتا سعيدا تسكن فيه مع الملك النبي وتنجب ابنا ستنحدر من سلالته أمما وشعوب. قالت الملكة للوزير أنها “لم تطع قومها في حرب سليمان. ولو فعلت ذلك لتسببت في دمار مدينتها، إذ إنها قد فهمت من الرسالة التي أرسلها سليمان. أنه لا يبحث عن متاع الدنيا أو الاستيلاء على الأراضي بل إنه يريد تعبيد الناس لرب العالمين. ولذلك فإنها قد تذهب بنفسها من اليمن إلى بيت المقدس لتنظر خبر هذا النبي العظيم الذي ينطق بوحي الله تعالى”.
2
لم يكن المزاج الملكي معتدلا بالكامل في ذلك النهار ، فجاء ما يفيد بأن جلالته وهو المغرم بالخيل والعناية بها ، كان قد انشغل ببعضها ففاتته الصلاة فأمر بإحضارها تمر أمامه في صف طويل يستعرضها وقيل يضربها :
مثلما فاتت الصلاة سليمان
فأنحى على رقاب الجياد
أتى بعض ظرفاء الجن وبعض الموسيقيين من الطير وشعراء من النحل المنتج فخففوا على النبي لأنه وهو داخل للاستعداد لمقدم الملكة بلقيس ، عاجلته الجواري وبعض الحرائر من الجنيات بأطباق الزهر والحجاب بالمباخر والنحل بالشعر . هنا تقدم أحد الحراس مني بتشجيع من هدهد أفريقي اسمر قائلا:
-أدن أيها الغريب
-دنوت فقرب اليه تسجيل كنت أـسلى به في الرحلة .سألني ما هذا فقلت …مغن من وطني تصادف معاني أغنيته ما يحف بالملك النبي من جلال ولو أنك أسمعتها موكب الملك عند دخوله ، للطف هذا مزاج النبي وعزز حضور مزاجه الرائق وهو يستقبل ضيفته. هنا أنطلق صوت حاديين من وطني عبر التسجيل هما ميرغني المأمون وأحمد حسن جمعة:
حليف الصون فلتدم في علاك
إنت زول معصوم ولا إنت ملاك
إنت بدري وكيف الخدر ظلاك
أنت كوكب نور تشتهي الأفلاك
فيك كم آيات يالحياك جلاك
منظر الساحرات ومنظر الأفلاك
ياجميل النور ماسه من عيناك
منظر الأنوار طالعة من مغناك
والشباب يترنم بي معاني غناك
والجمال الفيك عن مديح أغناك
كان الملك وقد تورد خداه يبتسم وحاجب نوبي يقف مع أحد حجاب الجن يهتف الله …الله ….كلو فيك يا سيدنا الملك.
في مأدبة الملك النبي ، كان الملوك والوزراء من مختلف العصور يأكلون في أطباق ذهبية والنبي يأكل في صحن خشبي وجبة متواضعة ، ومع ذلك كان المجلس صرحا ممردا صنعته الجن من الزجاج وتحته ماء بأسماكه حتى أن الملكة وهي تدخل عبر ممر زجاجي الأرضية رفعت عن ساقيها لظنها أن ثوبها الملكي سيبتل، مثلما ابتل عقلها بالدهشة وهي ترى عرشها في القصر بعد أن أحضره عفريت من الجن إلى النبي قبل أن يرتد إليه طرفه.
كان خد الملك وضاحا كلؤلؤ منثور وهو يمتطي صهوة فرس عال أبيض بلجام مطرز بمعدن نفيس ، ومع ازدحام جدول عمله ولأن التسجيل في نظره يصلح لأن يهدى إلى الملكة الزائرة ، وجه عفريتا من الجن أن يبني لي بيتا من الحجر النوبي في ضاحية كافوري على النيل في الخرطوم قبل أن يرتد اليه طرفه وأن يحسن وفادتي ويأمر بحل ديوني العديدة ومنحي هاتف خلويا عليه ختم الملك سليمان …عصيا على السرقة معصوما من اكتشاف أسماء الحرائر آمرا بتعميم الأغنية في مملكته ونسخها على ملايين الأقراص الجنية تذكارا وتقديرا.
وهنا وقفت في حضرته مغنيا والشيالون الجن برددون:
كل معاني اليوم طالعه من معناك
تبسم الأيام لوبسمت سناك
الزهور والنور بانو في وجناك
والزي جمال الحور زيه فتو هناك
مهما أجيد أوصاف أشوفها حامله صفاك
هتف الملك : جزاك الله خير …جزاك الله خير… فانصرفت مختفيا في طيات التاريخ حالما بمنزلي الجديد وربما منزلتي في الدولة مستعيدا عرش أبائي وأجدادي.
