خاص / اخبار السودان
منذ عدة أسابيع والناس في نواحي من ولاية شمال كردفان يتناقلون الأخبار والشكوى من تفلت مجموعات عسكرية جيدة التسليح مجهولة الهوية لدى الرأي العام, وتناقلت وسائط إعلام خارجية أنباء اعتداء وتعدي أفراد منها على المواطنين بصورة متكررة, ولم يصدر طوال هذه الفترة أية مواقف رسمية للتعاطي مع هذه التطورات الخطيرة, وتُرك الأمر لتداول الإعلام الشعبي الأكثر تاثيراً وانتشاراً.
وحين زرت الأبيض حاضرة ولاية شمال كردفان قبل نحو أسبوعين لأداء واجب اجتماعي لم يكن لوفود المعزين من حديث سوى فعائل وتجاوزات تلك القوات التي بات يُطلق عليها اسماً شعبياً يستدعي إلى الذاكرة كل رصيد وإرث العنف والانتهاكات الفظيعة التي حدثت في دارفور, وقادت البلاد إلى التبعات والتداعيات المعروفة في مواجهة المجتمع الدولي بكل آلياته ووسائله.
وفي إحدى غرف منزل كان يُستضاف فيه المعزين القادمين من خارج الأبيض, كانت هناك بندقية كلاشنكوف تستريح على أحد النوافذ, وعندما أبديت استغرابي للمشهد طفق صاحب البندقية السريعة الطلقات يحكي لي أنه وأولاده لم يجدون وسيلة لحماية أنفسهم إلا باقتناء الأسلحة, لافتاً إلى أن يومه يبدأ بنشر أنجاله لمهام المراقبة والحراسة في مواجهة هجمات غادرة راح ضحيتها عدد من الناس, ومضى يحكي بتفاصيل دقيقة لا تسع هذه المساحة لإيرادها ويكفي عنوانها للإشارة إلى حجم المشكلة المتفاقمة.
وفي إحد مجالس العزاء حاصرني رهط من سكان الأبيض يحكون عن حوادث بعينها تورد طرفاً من أنواع التجاوزات التي يرتكبها هؤلاء المسلحون المنفلتون من قيود انضباط الجندية في قلب حاضرة الولاية وهي تتكرر إلى درجة أصبحت ظاهرة مخيفة ومثيرة للقلق على مستقبل الأمن في مدينة الأبيض وما جاورها في مناطق ارتكاز هذه القوات أو تحركها.
وطالبني جلسائي ممن أعرفهم شخصياً وأثق في صدق أقوالهم بأهمية إثارة هذه القضية في الصحافة السودانية لتنوير الرأي العام بما يجري وللفت نظر السلطات إلى أهمية حسم هذه الحالة من التفلتات ومعالجة الظاهرة جذرياً قبل أن تتحول إلى إنفلات أمني لا يمكن احتواؤه.
اعترف أنني تلكأت في الاستجابة لهذا الطلب لسببين, الأول من فرط غرابة القصص التي سردوها حتى ظننت أنهم يبالغون في تضخيم أمر لم يعدو في تقديري حينها أن تكون مجرد حوادث فردية لا تصلح لأن تكون قاعدة عامة, ولعل قصر مدة إقامتي لم يمكنني كصحافي من التحقق بنفسي من الروايات المتواترة لتلك التجاوزات الآخذة في الانتشار والتوسع, وهو تقصير مني بلا شك فليس هناك موضوع أهم من الأمن للمواطنين, والأمن من الخوف نعمة ذكّر الله تعالى به قريشاً إذ أكرمهم ببلد آمن يُتخطف الناس من حوله, ناعياً عليهم غفلتهم عن عبادة رب البيت.
والسبب الثاني أنني ما ظننت أبداً ألا يكون قد بلغ السلطات المسؤولة على الأصعدة كافة محلياً وقومياً أنباء هذه التعديات المنكرة والتجاوزات في حقوق المواطنين وأرواحهم التي ترتكبها هذه الجماعات المسلحة المنفلتة عياناً بياناً بلا خوف من سؤال أو تبعة, ثم يلوذون بالصمت أو يحجمون عن التحرك العاجل لاتخاذ الإجراءات اللازمة والمطلوبة بشدة لوقف هذا العبث بأمن المواطنين.
لقد تبين لي كم كنت حسن الظن وصحف الأمس تتصدر عناوينها أنباء خروج المواطنين في الأبيض متظاهرين احتجاجاً على آخر تعديات تلك الجماعة المسلحة وهي تغتال تاجراً بمنطقة ام قرين جنوبي الأبيض, كما حملت خبر تعهد الوالي أحمد هارون بإخلاء المنطقة من أية قوات في غضون اثنتين وسبعين ساعة, والسؤال لماذا انتظرت السلطات المحلية والإقليمية حتى يخرج الناس عليها محتجين بعد أن فاض بهم الكيل, ألم يكن ذلك ممكناً مع بداية تنامي هذه الظاهرة المستغربة؟.
إن أخطر ما في هذا التراخي الحكومي سواء الاستعانة بقوات غير نظامية, أو التغاضي عن تجاوزاتها حتى استفحلت مثيرة الغضب الشعبي, يشير إلى حالة من استقالة الدولة بسبب قصور بيّن عن أداء مهام من صميم مسؤوليتها, متخلية عن أهم وظيفة لها “احتكار مشروعية العنف” في تعريف ماكس فيبر الشهير. فماذا بقي لها؟.
