المستشار البشرى عبدالحميد يكتب _ من أرض الحرمين – أمير الإنسانية يفتح بوابة سلام السودان

في أوقات الشدَّة تظهر المعادن الحقيقية للشعوب والقيادات، وحين يعصف الظلم و يتكالب معها الخراب، تتجلّى مواقف الدول القوية التي لا تغيِّرها العواصف السياسية ولا ضجيج المصالح العابرة في مواجهة التحديات. إن من أعظم ما استحضره عن علاقة المملكة بالسودان قيادة وشعباً ما سبق وقاله خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز –رحمه الله– إبان حرب الخليج حول ما واجهه بعض مواطنى السودن من ظلم وعنت وحملات ضغط من حكومتهم بسبب دعمهم للموقف الشرعي للمملكة. يومها قال كلمته الخالدة: “سنتقاسم لقمة العيش مع الشعب السوداني الشقيق ولن تثنينا المواقف الرسمية عن دعم أشقائنا”. لقد أثبتت الأيام أن هذا المبدأ السعوديّ الأصيل ليس شعاراً عاطفياً، بل هو نهج مستقرّ وممتدّ إلى يومنا هذا تُجسِّده مواقف المملكة من حرب السودان المأساوية التي تعصف بالسودان منذ أكثر من عامين.
إن المملكة العربية السعودية دولة محورية ولاعب مؤثر، وصوت مسموع إقليمياً ودولياً تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وبرؤية سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، انتقلت السياسة السعودية من الدور التقليدي إلى دور الرؤية ومن ردود الأفعال إلى صناعة الفعل . إن ملف أزمة الحرب وضرورة إحلال السلام في السودان أحد الملفات التي أولتها المملكة اهتماماً خاصاً، ليس فقط باعتباره نزاعاً يهدد دولة عربية وشعباً شقيقاً، بل يمثل أيضاً جرحاً عربياً وإنسانياً يلامس ضمير كل من يعرف قيمة السودان وتاريخه ومكانته.
لقد كان منبر جدة الذي رعته المملكة العربية السعودية بالتعاون مع الولايات المتحدة في مايو 2023م أول مسار جاد وعملي لفتح الباب أمام تقديم الخدمات الإنسانية وإيقاف الحرب وإحلال السلام وكان الأمل المرتجى للحل، ولكن تعثر المسار لاحقاً لعدم تعاون الأطراف السودانية بالشكل المطلوب، ولكنه أثبت حقيقة واضحة وهي “أن السعودية هي البوابة التي يمكن أن يُفتح عبرها طريق السلام إذا توافرت الإرادة لدى الأطراف السودانية والداعمين الإقليميين والدوليين”.
ورغم ما واجهه اتفاق جدة من تحديات لم تنقطع مساعى المملكة ومسيرتها في البحث عن الحلول التي ظلت تدفع الأطراف السودانية والفاعليين الإقليميين والدوليين باتجاه دعم العمل الإنساني ووقف الحرب، مع تمسكها بمبدأ احترام السودان وسيادته ووحدة أراضيه. ولا شك أنه لا يمكن الحديث عن هذا الدور المتعاظم للمملكة دون الوقوف عند الدور الحاسم والرؤية القيادية والصوت المسؤول لسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، الذي جعل من صناعة الاستقرار الإقليمي ركناً أساسياً من مشروعه السياسي والأمني والاقتصادي.، وقد انعكس ذلك في متابعة سموه الشخصية للملف السوداني وإدارته الحثيثة للجهود السياسية والدبلوماسية، وتوجيهه الدائم بأن تكون المملكة في قلب أي مسار يهدف لإنهاء الحرب ومعالجة تبعاتها الإنسانية.
لم تكتف المملكة بالوساطة بل قدّمت نموذجاً نادراً في العمل الإنساني والقيم الإسلامية خلال الحرب.، فقد استقبلت مئات الآلاف من السودانيين منذ اندلاع القتال، وفتحت أبوابها لهم من دون تمييز، وسهّلت إقامتهم، ووفرت لهم بيئة آمنة تحفظ كرامتهم، في تجسيد عملي لمعنى الأخوة العربية والإسلامية. كما قامت المملكة من خلال مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، بتقديم أكبر برامج للدعم الإغاثي والإنساني للسودان، عبر الجسور الجوية، والقوافل البرية، والمبادرات الطبية والغذائية، ومشروعات معالجة الأوبئة ونقل الجرحى، في وقت تجاهل فيه كثيرون فداحة المأساة السودانية.
لقد بلغت المأساة الإنسانية ذروتها بعد اجتياح قوات الدعم السريع لمدينة الفاشر، وارتكابها جرائم فظيعة ومروعة بحق المدنيين العُزّل، ما أدى لانهيار الضمير الإنساني وصدمة العالم من هول ما حدث، وفي تلك اللحظات التي صمت فيها كثيرون أو حاولوا تبرير ما حدث من أصحاب الأجندة ، بقيت المملكة على موقفها الثابت، تُندّد بالعنف، وتدعو لوقف الحرب، وتقدّم الإغاثة بلا انتظار لمقابل. لقد جمعَتني على امتداد العامين الماضيين مناسبات عديدة بأصدقاء وأكاديميين وإعلاميين ومثقفين سعوديين، وكنت في كل لقاء استمع إليهم ألمس مدى صدق اهتمام الشعب السعودي بالقضية السودانية، وتعاطفهم العميق مع آلام أشقائهم السودانيين، واستعدادهم المستمر للدعم والمساندة. وهذا ليس غريباً؛ فالعلاقة بين الشعبين ليست علاقة عابرة، بل علاقة تاريخ وجوار وثقافة وقيم مشتركة.
وفي ظل تطورات المأساة السودانية جاء التحول الأكبر أثناء زيارة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة الأمريكية حيث قام بوضع الملف السوداني ضمن أجندة زيارته وطرحه بجدية وبشكل غير مسبوق ومقنع أمام الرئيس الأمريكي في لقائهما الأخير كشف خلالها خطورة الأزمة وتداعيات استمرار الحرب على السودان والإقليم، وعلى الأمن الإنساني في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي. وقد اعترف الرئيس الأمريكي بأن السودان “لم يكن ضمن أولوياته” ولم يكن يتصور حجم الكارثة وتداعياتها قبل هذا الطرح الواضح والحاسم ، الأمر الذي تَغيّر معه مسار القضية وأعلن الرئيس الأمريكي الإستحابة لطلب سمو ولي العهد والتوجيه الفورى ببدء الخطوات العملية نحو الحل وبهذا عادت قضية الحرب في السودان إلى مقدمة الملفات العاجلة على الأجندة الدولية لتكون للمملكة شرف فتح بوابة الحل من أرض الحرمين . ويظل الأمل معقوداً على أن تنتهز الأطراف السودانية هذه الفرصة ووضع مصلحة السودان فوق الحسابات الضيقة.
إن الدور السعودي في القضية السودانية ليس مجرد “موقف”، بل هو مسار مستمر، قائم على رؤية واضحة ومسؤولية أخلاقية وسياسية، ولذلك يمكن القول بثقة كاملة إن البوابة التي يمكن أن يعبر منها السودان نحو السلام والاستقرار قد فُتحت بالفعل من أرض الحرمين الشريفين، وستصيب الهدف بإذن الله شرط توفر الإرادة الوطنية السودانية لاستثمار هذه الفرصة ودعمها بجدية ووضوح.
ومن هذا الباب أتوجه بالنداء لجميع القوى العسكرية والسياسية والمدنية السودانية وإلى قياداتها جميعاً بأن مسؤولية اللحظة التاريخية تفرض عليهم جميعا الحرص على دعم مبادرة المملكة وشركائها بإخلاص والابتعاد عن تسويق الحلول عبر المنابر والجهات المتعددة من أصحاب الأجندة الخاصة.اعملوا معاً يداً واحدة وبروح وطنية خالصة لإنقاذ الوطن وفتح الطريق نحو سودان مستقر يعيش في أمن وسلام يستحقه شعبه.
وفي الختام أؤكد أن الشعب السوداني يظل ممتنًا لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ولسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان رئيس مجلس الوزراء ، على قيادتهما الحكيمة ومواقفهما الأخوية النبيلة، ودعمهما الثابت لإنقاذ السودان وشعبه من ويلات الحرب، مع تحية خالصة وشكر وتقدير للشعب السعودي الشقيق، الذي جسد معنى الأخوة الحقيقية قولاً وفعلاً.

مساعد رئيس حزب الامة القومي لدائرة سودان المهجر