الفاشر.. معركة الصمود وكسر حصار الدعم السريع: هل بدأت نهاية مشروع آل دقلو في دارفور؟

د.عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في فوكس السويد

منذ شهور، تعيش مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، تحت حصار خانق فرضته قوات الدعم السريع، في واحدة من أعنف الحملات العسكرية التي شهدها السودان منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023. لم تكن الفاشر مجرد هدف عسكري بالنسبة لقوات الدعم السريع، بل كانت الجائزة الكبرى في مشروع آل دقلو، الذي يسعى لتحويل دارفور إلى قاعدة نفوذ مطلق، تدار بالقوة العسكرية وحدها.

ورغم القصف المتواصل والتجويع المتعمد واستهداف معسكرات النازحين، لم تسقط الفاشر. على العكس، تحولت إلى نموذج فريد للصمود العسكري والمجتمعي، حيث تصدت القوات المشتركة، بدعم مباشر من المواطنين المسلحين، لمحاولات الاجتياح المتكررة. هذا الصمود لم يُربك حسابات الدعم السريع فقط، بل ألقى بظلاله على مستقبل دارفور بأكملها، وأعاد رسم موازين القوة في الإقليم الذي أصبح ساحة حرب مفتوحة.

لماذا الفاشر؟

الفاشر ليست مجرد مدينة أخرى في دارفور، بل عقدة استراتيجية تربط شمال دارفور بجنوبها وغربها، كما تتحكم في طرق الإمداد وممرات الاتصال داخل الإقليم وخارجه. من يسيطر على الفاشر، يسيطر فعليًا على قلب دارفور، ويقطع آخر شريان يربط الإقليم بالدولة السودانية المركزية.

لكن أهمية الفاشر لا تتوقف عند الموقع الجغرافي، فالمدينة تحتضن معسكرات نازحين ضخمة، يقطنها عشرات الآلاف من أبناء القبائل التي تعرضت للإبادة الجماعية على يد الجنجويد في 2003. بالنسبة للدعم السريع، معسكرات النزوح تمثل خزانًا بشريًا معاديًا يجب تفكيكه أو القضاء عليه.

سياسيًا، الفاشر ليست مجرد عاصمة ولائية، بل هي رمز الحكم في دارفور منذ سلطنتها التاريخية. السيطرة عليها تعني التحكم بشرعية الحكم في الإقليم كله، وهو حلم طالما سعت إليه قوات الدعم السريع منذ صعودها. لهذا، فإن المعركة حولها ليست مجرد صراع على مدينة، بل معركة على هوية دارفور ومستقبلها السياسي.

أرقام توثق المأساة

تحت الحصار، تحولت الفاشر إلى مدينة أشباح. الأرقام القادمة من الداخل، رغم صعوبة التحقق منها بشكل كامل، ترسم صورة قاتمة:
• 500 قتيل مدني منذ بدء الحصار، معظمهم من سكان الأحياء الشعبية ومعسكرات النازحين.
• 1300 جريح يعانون من نقص حاد في الرعاية الطبية، مع انهيار 60% من المرافق الصحية.
• 70% من السكان مهددون بالمجاعة نتيجة انقطاع الإمدادات الغذائية بالكامل.
• عشرات النساء تعرضن للاغتصاب في معسكرات النزوح، بحسب تقارير حقوقية.
• إعدامات ميدانية نفذتها قوات الدعم السريع بحق مدنيين في أحياء جنوب الفاشر.
• سوق معسكر أبوشوك تعرض لقصف مباشر أدى إلى مقتل 30 مدنيًا في يوم واحد.

تكتيكات الأرض المحروقة

تطبيقًا لاستراتيجية مجربة في دارفور منذ حرب 2003، لجأت قوات الدعم السريع إلى تكتيكات الإبادة التدريجية، عبر:
• قطع الإمدادات الغذائية والطبية بالكامل.
• قصف الأسواق والمستشفيات ودور العبادة.
• قصف عشوائي ليلي لإرهاب السكان ودفعهم للنزوح القسري.
• إحراق المحاصيل والمخزون الغذائي داخل الأسواق المحلية، لضمان خلق أزمة معيشية خانقة.

المقاومة المفاجئة.. حينما يقاتل المدنيون

ما لم تحسبه قيادة الدعم السريع، كان الرد الشعبي المباشر من داخل الفاشر نفسها. مع بدء الحصار، سلّحت القوات المشتركة (الجيش والشرطة والقوات الخاصة) أعدادًا كبيرة من المواطنين الراغبين في الدفاع عن أحيائهم.

تحولت المدينة إلى شبكة مقاومة شعبية-عسكرية، حيث لعب المواطنون دورًا رئيسيًا في:
• نصب الكمائن داخل الأزقة والشوارع.
• إبلاغ القوات المشتركة بتحركات الدعم السريع.
• إمداد المقاتلين بالذخائر والمؤن.
• تنظيم خطوط دفاع شعبية بالأحياء الطرفية.

بهذا المعنى، الفاشر لم تقاتل فقط بجيشها، بل بأهلها أيضًا، في نموذج مقاومة حضرية نادر في تاريخ دارفور الذي عرف المقاومة غالبًا في الأحراش والجبال، وليس وسط المدن.

المشروع في مأزق.. الفاشر تربك آل دقلو

مع فشل الدعم السريع في اقتحام الفاشر رغم شهور الحصار، تلقى مشروع آل دقلو ضربة قاسية. كان الرهان أن تسقط المدينة بسرعة، فتكون بوابة إعلان دارفور إقليمًا خاضعًا بالكامل لسلطة الدعم السريع. لكن الصمود الممتد كشف هشاشة المشروع، وكلف الدعم السريع استنزافًا بشريًا ولوجستيًا غير محسوب.

في الوقت ذاته، بدأت التصدعات الداخلية تظهر في قيادة الدعم السريع الميدانية، خصوصًا مع تصاعد الغضب الدولي بعد توثيق الجرائم ضد المدنيين في الفاشر.

الفاشر والجنينة.. مفارقة المقاومة والسقوط

بينما صمدت الفاشر، سقطت الجنينة بالكامل في قبضة الدعم السريع، بعد حملة تطهير عرقي وثقتها الأمم المتحدة. الفارق الجوهري بين المدينتين أن الفاشر احتفظت بقوات الجيش وبنسيج اجتماعي متماسك رفض التعاون مع الدعم السريع، على عكس الجنينة الممزقة قبليًا والمعزولة عسكريًا.

معركة على مستقبل دارفور والسودان

إذا صمدت الفاشر حتى نهاية العام، فستتحول إلى رمز وطني يعيد إحياء الأمل في كسر شوكة الدعم السريع، ليس في دارفور فقط، بل في السودان كله.

أما إذا سقطت، فستدخل دارفور نفقًا مظلمًا جديدًا، حيث تتحول بالكامل إلى إقليم تحت حكم مليشياوي، وتصبح الحرب القادمة حربًا عرقية مفتوحة، تدفع إلى نزوح جديد بمئات الآلاف، وربما نحو تدويل أوسع للصراع

ما يجري في الفاشر اليوم ليس مجرد صراع محلي، بل معركة كبرى على هوية السودان. هل يكون السودان دولة لكل مواطنيه، أم يتحول إلى إقطاعيات عائلية تحكمها المليشيات؟

الجواب لن يأتي من الخرطوم أو العواصم الدولية، بل من أزقة الفاشر وبيوتها التي تحولت إلى متاريس للصمود. هناك وحدها يُكتب تاريخ دارفور والسودان بالنار والدم