السفير.د.معاوية البخاري_الفاشر.. رهان الحرب الكبرى بين الرمز والمعركة المفتوحة!؟

مقدمة
تمثل مدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور اليوم قلب المعادلة العسكرية والامنية والسياسية في غرب السودان، وساحة اختبار قاسية لمآلات الحرب الكبرى التي تجاوزت عامها الثاني. فهذه المدينة، بما تحمله من رمزية تاريخية ووجدانية وموقع استراتيجي، لم تعد مجرد نقطة جغرافية، بل تحولت إلى عقدة تحدد شكل الصراع في السودان، وربما ترسم ملامح مستقبله، كونها تتسيد الأضواء بالمعاناة والمأساة الانسانية التي يفاقمها الحصار الخانق عليها وعلى المدنيين، والمآسي التي جرت في معسكري زمزم وابوشوك للنازحين من حولها، والتحديات الأخرى بالمحور الغربي .
الأهمية الاستراتيجية والرمزية
الفاشر ليست عاصمة شمال دارفور فحسب، بل هي العاصمة التاريخية لسلطنة دارفور. كاسية الكعبة المشرفة، السيطرة عليها تعني في حسابات التمرد، امتلاك “عاصمة بديلة” تمنح شرعية سياسية ومعنوية، وتؤسس لخطاب إعلامي توهمي في القوة والامرة والسيطرة .
جغرافيًا، تقع الفاشر عند تقاطع طرق يربط السودان بالحدود التشادية والليبية، ما يجعلها شريانًا لخطوط الإمداد والسلاح والتهريب، فضلًا عن كونها مركزًا بشريًا يحتضن مئات آلاف السكان والنازحين، الأمر الذي يعقد أي عملية عسكرية واسعة النطاق خشية الكلفة الإنسانية على المدنيين والابعاد الإعلامية على الميدان والمحور الغربي في كلياته.
الوضع العسكري الراهن
تشهد الفاشر تمترسًا معقدًا؛ قوات التمرد أحكمت قبضتها على أطراف المدينة وبعض المحاور الداخلية، معتمدة تكتيك “التحصن بالمدنيين” كدروع بشرية واستخدام الكثافة السكانية كغطاء يحول دون الحسم السريع.
في المقابل، الجيش السوداني والقوات المتحالفة معه وجميع المساندين له تحافظ على تمركزات أساسية في مواقع حيوية، وتنفذ ضربات انتقائية لإعاقة تمدد التمرد، مع العمل على تأمين الطرق المؤدية إلى كردفان والوسط. غير أن طول خطوط الإمداد وصعوبة المناورة في البيئة الحضرية يضعان القوات النظامية أمام تحدٍ بالغ، لذا استطال امر تحريرها وخضوعها لمعالجات دقيقة تستوعب كافة الخيارات بكل ما تحمله من تعقيدات وتقديرات عسكرية.
الموقف الدولي والبعد الإنساني
لم تغب الفاشر عن رادار المجتمع الدولي، حيث تعتبر الامم المتحدة ما يجري فيها بالجرائم ضد الإنسانية ، وصدرت بيانات وقرارات من مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان بجنيف ، تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، وتُطالب قوات التمرد بالانسحاب من المدينة ووقف الهجمات على المدنيين ومخيمات النازحين. غير أن هذه الدعوات لم تجد طريقها للتنفيذ، وسط غياب آليات تنفيذية حقيقية خارج الضغط والمناشدات، واكتفاء القوى الدولية والإقليمية بتبادل بيانات القلق والإدانة، فيما تمضي الاوضاع الي تفاقم المعاناة والتصفيات الاجازية من قبل التمرد والتي تحمل أبعادا عرقية بالغة الخطورة ربما تجعلها ساحة إبادة قادمة، من خلال تدهور الوضع الإنساني بشكل مريع. فالمدينة تحتضن مئات آلاف النازحين الذين يعيشون في ظروف قاسية، مع نقص حاد في الغذاء والدواء والمياه والكهرباء ووباء الكوليرا الفتاك وحمى الضنك، وإغلاق طرق الإمداد الإنسانية بسبب الاشتباكات واستمرار القصف . المنظمات الدولية تحذر من أن الفاشر قد تتحول إلى بؤرة مجاعة كبرى إذا لم يُسمح بمرور المساعدات، ولن يكون جذع الامين الأعلم للامم المتحدة غوتيرش الجمعة ٢٩ أغسطس آخر تعبير عن الأوضاع الجسيمة والمتفاقمة هناك .والحكومة السودانية تبدي موافقتها لادخال المساعدات الانسانية وتعلن الهدنة وتلتزمها، فيما يتعنت التمرد طمعا في جعلها منصة لتسوية سياسية . في وقت تتسع فيه الانتهاكات ضد المدنيين والقتل داخلها وفي معسكر ابوشوك، وتتصاعد المخاوف من جرائم جماعية أشبه بما جرى في الجنينية ودار مساليت من قبل من خلال منع الضحايا الأبرياء من المغادرة الآمنة .
السيناريوهات المحتملة
أمام هذا الوضع، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل المعركة في الفاشر:
1. سيناريو السقوط الكامل:
يسعى التمرد لان ينجح حصاره في السيطرة الكاملة على الفاشر، باتخاذه المدنيين فيها دروعا بشرية، فالحصار هو تكتيك ممنهج يهدف لشل أي قدرة على الحركة أو التخفيف من المعاناة ، ومنع ولوج المساعدات الإنسانية المكدسة حول المدينة ، ظنا منهم ان ذلك سيشكل نقطة تحول خطيرة، إذ يمنحهم قاعدة مشروعية وحكم موازٍ، ويكرس واقعًا أقرب إلى التقسيم الفعلي للسودان، مع ما يحمله ذلك من تداعيات إنسانية كارثية، وفق مؤشرات المخطط الذي رسمته القوى الراعية لخيار حصار المدينة وتأزيم الوضع الإنساني ، ويعمل التمرد على انفاذ مخططه بقسوة متناهية .
2. سيناريو الحرب الطويلة:
فيما تشير بعض التحليلات أن الفاشر قد تتحول إلى “حلب سودانية”، أي مدينة محاصرة لسنوات، تشهد قصفًا متقطعًا، ونزوحًا جماعيًا، وانهيارًا كاملًا للبنية المدنية والصحية، ومعاناة إنسانية تمضي الي الكارثة والأهوال في سياق حرب استنزاف لا غالب فيها ولا مغلوب، لكن دلالاتها على المشهد الإنساني والدولي تجعلها عقدة ممتدة وعصية على المعالجة بتقديرهم.
3. سيناريو الاحتواء التدريجي:
يظل السيناريو الثالث هو الأصعب عسكريًا لكنه الأقل كلفة استراتيجيًا على المدى الطويل. والذي تقوم فكرته على تكرار تجربة الجيش في الخرطوم مع الفوارق ، حيث نجح في استعادة زمام المبادرة العسكرية تدريجيًا عبر تكتيكات متقطعة، واستغلال حالة الإنهاك التي أصابت قوات التمرد بعد تمددها المفرط وفقدانها القدرة على الامرة والسيطرة المستدامة
في الفاشر.ويمكن أن يتجه الجيش إلى عزل جيوب التمرد داخل المدينة، وقطع طرق الإمداد القادمة من الحدود الغربية، مع الاعتماد على حرب استنزاف نفسية وميدانية تُضعف معنويات الخصم. كما يستند هذا السيناريو إلى تراجع التمرد ميدانيًا في عدة جبهات، ما يقلل من قدرته على الاحتفاظ بالفاشر لفترة طويلة.
على الصعيد السياسي، فان رفض مجلس الأمن لفكرة أي حكومة موازية يعزز هذا الخيار، لأنه يحرم التمرد من غطاء دولي أو اعتراف محتمل في حال أعلن الفاشر “عاصمة بديلة” ظلوا ينتظرونها من اكثر من عام. وبهذا يصبح بقاء التمرد في المدينة عبئًا سياسيًا وإنسانيًا مكلفا ، أكثر من كونه مكسبًا استراتيجيًا يقف على رجلين رغم إصرارهم على غاية الحصار واستدامته.
خاتمة
الفاشر اليوم ليست مجرد ساحة معركة، بل هي مرآة لحال السودان بأكمله: بلد يقف على حافة الانقسام والدمار، أو على أعتاب فرصة لإعادة ترتيب البيت الداخلي بانتصار قريب ومنظور ،او عبر تسوية سياسية شاملة يرومها التمرد من وراء الحصار وتبعاته . لكن المؤكد أن المعركة على الفاشر ستظل مؤشرًا حساسًا، ليس فقط لمصير دارفور، وإنما لمصير السودان في مجمله، ووضع حد فارق لهذه الحرب الممتدة في مآلاتها العسكرية والإنسانية. الأوضاع في الفاشر ونيالا مترابطة وتاثر على كل دارفور واللاجئين في تشاد ، والحرج يبقي . رغم أن الدولة السودانية تتقدم في اكثر من ساحة والبلاد تخطو نحو التعافي والبناء المدني وعودة الحياة.
وإذا كانت مأساة النازحين في معسكر زمزم قد كشفت عورة التمرد وفضحت نواياه ، بعد أن طالت انتهاكاته المدنيين العُزّل وتسببت في تفاقم الأزمة الإنسانية، فإنها في الوقت نفسه وحّدت المجتمعات المحلية وأبرزت نزوعها الطبيعي إلى الاصطفاف إلى جانب الجيش باعتباره آخر ما تبقى من رمزية الدولة. هذه الحقائق قد تعيد رسم التوازنات، وتؤكد أن الحرب، مهما طالت، لن تُحسم بالقوة المجردة، بل بمدى القدرة على كسب الحاضنة الاجتماعية والسياسية والسند الداخلي، وهذا ما يرجح كفة النصر للقوات المسلحة وقدرتها في المناورة والتقدم لاستكمال تحريرها آخذة في الاعتبار الوضع الإنساني المتداعي وحياة المدنيين الغالية وعامل الوقت في انجاز المطلوب ،مقابل الزخم الوجداني الجمعي تجاه الفاشر في نفس كل مواطن سوداني، والثقة بالجيش وانتصاراته التي تطوي الارض من حول التمرد لتبقى الفاشر حصن النصر المرتجى رغم أنف رعاة الحرب بالداخل والخارج، وهذا الانصراف الدولي المخزي عن مأساتها.

١١ سبتمبر ٢٠٢٥م