مقدمة:
يمر السودان بمرحلة دقيقة ومصيرية، حيث تتشابك رهانات الداخل مع حسابات الخارج، بعد أكثر من ست سنوات منذ سقوط نظام الإنقاذ في 2019، كانت الـفوضى والفشل هي السمة الأبرز لهذه المرحلة. وما تلا ذلك من فراغ مؤسسي واندلاع حرب كارثية مفروضة على البلاد بتداعياتها المستمرة . هذه الحرب لم تكتفِ بتهديد الاستقرار الداخلي، بل ارتبطت بتدخلات وضغوط ومطامع إقليمية ودولية تسعى لإضعاف الدولة واستنزاف قدراتها.
في هذا السياق، أصبح من الضروري استكمال البناء السياسي الوطني بتثبيت الجهاز المدني التنفيذي المتمثل في تعيين رئيس و مجلس للوزراء وبقية الهيئات والمؤسسات ذات الصلة . وإكتمال الجهاز العدلي بالمحكمة الدستورية، التي تعتبر ضرورة استراتيجية عاجلة. لحماية الدولة ومؤسساتها ومواطنيها تتطلب حسمًا سريعًا وإجراءات فاعلة، بعيدًا عن التأجيل أو التراخي، لضمان أن يكون السودان قادراً على مواجهة التحديات والتعقيدات التي تواجهه، واستعادة المبادرة الوطنية، ومنع الانزلاق إلى هاوية الفوضى والانقسام. و الاهم في ذلك سودنة المشروعات و الحلول بمنظومة وطنية متكاملة، وسد كافة الثغرات المؤسسية باتت أكثر أهمية بعد التعطيل الذي لازمها، ما تزال نتائجه تأخذ بتلابيب البلاد أقعدتها و ردتها عقودا للوراء .
أولاً: دلالات البناء السياسي
اكمال الجهاز التنفيذي ليس إجراءً شكليًا، بل هو العين التي تمارس مهام الدولة التنفيذية الفعلية في هذا التوقيت الحساس.المجلس يضطلع بإدارة شؤون الدولة والمدنية والأمن بمفهومه الشامل والخدمات العامة والاقتصاد بكفاءة، لاعادة المسار الحياتي الي طبيعته، ويشكل العمود الفقري لأي سياسات إصلاحية أو مواجهة للتحديات الداخلية والخارجية . وبدأ بالفعل في ممارسة مهامه، ما يمثل خطوة جوهرية في استعادة الفاعلية التنفيذية للدولة. ومع ذلك، فإن نجاحه يعتمد على وضع خطط وبرامج واضحة، ومخاطبة الأولويات القصوى وتوفير الموارد اللازمة لتنفيذ السياسات، وإزالة أي تقاطعات مع الأجهزة الأخرى، وتنسيق الأدوار بين مختلف المؤسسات الحكومية والأجهزة المدنية والشعبية، وبث الطمأنينة في نفوس المواطنين.
أما إكمال الجهاز العدلي فيعكس التزام الدولة بسيادة القانون والعدالة، ويمثل قاعدة لأي مصالحة وطنية أو تسوية سياسية مستدامة، ويؤكد أن السودان يسعى لإرساء مؤسسات قوية بدلاً من حكم القوة والانقسام وطي الحقبة السابقة بكل ما حملت من منغصات .
ثانياً: معالجة الثغرات المؤسسية
رغم الخطوات المتقدمة في استكمال مؤسسات الدولة، ما يزال غياب الجهاز التشريعي منذ 2019 وتجميد مجلس شؤون الأحزاب او تعليق نشاطه، يمثلان ثغرة كبيرة في بنية الحكم واكتمال حلقاته، ويترك السلطة التنفيذية بلا رقابة فعّالة، ويحد من قدرة الدولة على تمثيل إرادة الشعب وضمان التوازن بين القوى السياسية. التشريع والرقابة هما الضمانة الأساسية لمساءلة الحكومة وحماية الدولة من الاستغلال الداخلي والخارجي، بينما الحياة الحزبية المنظمة تمثل أداة حيوية لتجسيد الإرادة الشعبية وتعزيز الاستقرار السياسي في هذا الظرف الاستثنائي، ريثما يحين استعادة دورة الانتخابات وانتظام البناء الديمقراطي.
إعادة تفعيل هذه المؤسسات يظل أمر بالغ الأهمية، لأنه:
• يعيد تنظيم الحياة الحزبية ويضمن تكافؤ الفرص لجميع المكونات السياسية، بما يعزز الشرعية الوطنية.
• يؤسس لجهاز تشريعي قادر على سن القوانين ومراقبة أداء الحكومة بكفاءة وشفافية، بما يعزز دولة المؤسسات وسيادة القانون.
• يمكن من صياغة قانون انتخابي عادل يعكس التمثيل الصحيح للمكونات الجغرافية والاجتماعية، ويضمن مشاركة فعّالة لكل القوى الوطنية في بناء الدولة.
هذه الإجراءات ليست رفاهية سياسية، بل ضرورة استراتيجية لتأمين الدولة ومؤسساتها، وتمكينها من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بحزم وفعالية، وسياج مطلوبات الحكم المدني .
كما يكتسب ترتيب أمر الوُلاة وتوزيع الولايات بين المدني والعسكري أهمية قصوى في هذه المرحلة؛ فالمناطق المستقرة أمنياً وإدارياً يجب أن يشرف عليها ولاة مدنيون لتعزيز الحكم الرشيد والمؤسسات، ودليل للتعافي الوطني. بينما يُترك التعيين العسكري للمناطق التي لا تزال تواجه تحديات أمنية وعسكرية مباشرة، لضمان استقرارها وحماية المواطنين دون تقويض المدنيين أو السلطة الشرعية، وهي مطلوبات تسد الكثير من الثغرات والانتقادات التي تُرمى بها الدولة من قبل أعدائها.
إعادة تفعيل المؤسسات، مع مراعاة هذا الترتيب الاستراتيجي للولايات، إلى جانب صياغة قانون انتخابي عادل، يشكل أساسًا لدولة مؤسساتية متماسكة قادرة على حماية مصالحها الداخلية وإرساء قاعدة للسلام والاستقرار.
ثالثاً: تحديات القوى المناوئة
في المقابل، تسعى بعض القوى المسلحة، من دعاة الحرب وجنرالاتها، وعلى رأسها قوات الدعم السريع المتمردة وتحالف “تأسيس”، عبر دعم خارجي من خارج الحدود لإيجاد موطئ قدم وشرعية سياسية. توجهات هذه القوى تصب بشكل واضح في استدعاء مشاريع خارجية تهدف إلى تفكيك البلاد وزرع الفتنة والانقسامات، وليس في خدمة مصلحة السودان واستقراره أو عملية التأهيل والإعمار، ولن يألوا جهدا في مواصلة نشاطهم طالما هنالك من يرعى هذا المشروعات خارجيا .
نجاح هذه المحاولات يعني استمرار الفوضى والخراب، بينما استكمال المؤسسات الوطنية بالسرعة المطلوبة يقضي على أي ذريعة لها، ويعزز شرعية الدولة القائمة على إرادتها الذاتية، ويؤكد أن مرحلة الإعمار وإعادة البناء لا تحتمل القوى المدمرة، بل تتطلب قيادات ومؤسسات وطنية قوية ومتماسكة أثبتت جدارتها وانفعالها بالهم الوطني ومقتضيات الاستقرار والبناء المستدام، وتشارك في مشروع النصر والكرامة.
رابعاً: البناء السياسي كأداة لكفكفة الحرب
إن وجود حكومة مدنية فاعلة وجهاز عدلي وقضائي مستقل يشكل خط الدفاع الأول ضد أسباب التمرد والفوضى وإنفاذ العدالة ، ويفتح المجال أمام المجتمع المدني والقوى الوطنية للعمل ضمن إطار قانوني ومنظم. ولقد ظل أعداء السودان عبر تاريخه ينفذون من ثغرة غياب دولة القانون وضعف المؤسسات، مستغلين ذلك لإضعاف القرار الوطني وتفتيت الجبهة الداخلية. من هنا، فإن تعزيز دولة القانون والمؤسسات ليس ترفاً سياسياً، بل هو ضرورة ملحة ذات أبعاد استراتيجية، تعيد للسودان مكانته كدولة راسخة ذات سيادة، وتُسخّر الإرث التاريخي الحافل والكفاءات والخبرات الثرية التي يتمتع بها أبناؤه لبناء منظومة حكم قوية وعادلة. وبهذا يصبح السودان قد نهض من كبوته فاعلاً سياسياً قادراً على اتخاذ القرار والتفاوض بجدية، ومحصن بسياج دستوري تليد، بدلاً من أن يكون ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية
خامساً: استقامة الدولة ورص الصف الوطني
إن انتظام الدولة في مسارها السيادي، بوجود مؤسسات تنفيذية وتشريعية وحزبية قوية تعمل وفق القانون والدستور، هو الأساس الذي يمكّنها من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بثبات واقتدار. فالدول الضعيفة والمتشرذمة لا ينظر إليها أحد بجدية، بينما الدولة القوية التي تبني مشروعها الوطني على قدراتها الذاتية وتحافظ على استقلال قرارها السياسي والاقتصادي تحظى بالاحترام والاعتراف الدولي.
وقد أثبت تاريخ السودان الحديث أن لحظات التشرذم والاقتتال الداخلي كانت المدخل الأكبر للتدخلات الأجنبية وإضعاف القرار الوطني، بينما مثلت لحظات الوحدة والاصطفاف، كما حدث في فترات الاستقلال الأولى أو خلال محطات التوافق الوطني الكبرى، لحظات قوة جعلت السودان قادراً على حماية قراره وصون سيادته. ومن هنا، فإن رص الصف الوطني وتعزيز التلاحم المجتمعي على قاعدة عقد اجتماعي يقوم على التراضي والإنصاف وتقديم التنازلات المتبادلة بين القوى المختلفة، يمثلان الضمانة الحقيقية لعبور هذه المرحلة الحرجة.
إن بناء سودان جديد، يستمد قوته من وحدته الداخلية ومتانة مؤسساته الوطنية، هو الكفيل بحماية سيادته ومصالحه الاستراتيجية، ويحول دون استغلال أزماته من قبل الأطراف المعادية. بذلك يصبح السودان دولة عصيّة على التفكك، وفاعلاً مؤثراً لا مجرد ساحة للتجاذبات
خاتمة
استكمال البناء السياسي الوطني ليس إجراءً شكليًا، بل خطوة استراتيجية لإرساء دولة القانون والمؤسسات. وجود حكومة فاعلة، وجهاز تشريعي نشط، وأحزاب تعمل بحرية وفق القانون في هذا التوقيت الدقيق من تاريخ أمتنا ، يمنح الدولة قدرة فائقة على إدارة شؤونها الداخلية وحماية سيادتها، ويقلص تأثير القوى المناوئة ورعاتها الخارجيين.
إن القوة الحقيقية للدولة تكمن في وحدتها ومؤسساتها، ومن خلالها يمكن للسودان أن يتحول إلى دولة مستقرة، تحمي مصالح شعبها، وتفرض احترامها على الداخل والخارج على حد سواء، ويغير من الصورة النمطية السالبة في العقلية الاقليمية والدولية، ويقطع الطريق أمام محاولات الابتزاز والمشروعات الاجنبية الممتدة .
———-
١٠ سبتمبر٢٠٢٥م
السفير.د.معاوية البخاري يكتب استكمال البناء السياسي الوطني: خطوة حاسمة في كفكفة الحرب المفروضة على السودان!؟
