الروائية سارة ابراهيم تكتب قريبا من دائرة الشك

نسوة القرية هناك لا يستعصى عليهن شيء هن بمثابة بنك متحرك للمعلومات أو أحدث برامج البيانات بسعات مفتوحة متعددة في الوقت ذاته، بساطتهن وعفويتهن ولغتهن المُكسرة قليلا تدخل القلب من أوسع أبوابه رغما عنك وعن رؤيتك السابقة عن المجتمعات الريفية، لكنك لا تملك القرار أحيانا للتخير أين تكون، فالفرار من مناطق الحروب إلى مكان آمن في حد ذاته نجاة تجعلك تتنازل عن كل شيء تستلذ بالأمن والهدوء والسماء الصافية من الطائرات والمضاد والقازفات أو اعمدة الدخان والغبار المتصاعدة يوما بعد يوم، هنا السماء غير تلك التي في الخرطوم، حيث الشروق مع تحليق اسراب عصافير الدوري أو (ود ابرق) والحمام وتارة سرب من النوارس يجعل من أشعة الشمس المسلطة بقوة شيء مقبول لحد ما، ومع الغروب يحلق بك بعيدا عودة اسراب الطيور التي تخلق لوحة كونية مع امتزاج ألوان الشفق مع خوار ثور وصهيل حصان وحركة الكوارو المحملة بالبرسيم وغيره جيئة وذهاب، تسلملك إلى سماء صافية مليئة بالنجوم تتلألأ في عتمة الليل الدامس الناعس، على خلاف ليل الخرطوم الذي يشوبه الخوف والقلق، ويشق صمته تدوين مفزع تعقبه أصوات الرصاص التي وكأنما عهدت لليل بأن تبدد سكنيته وتنجح في ذلك حتى ينلج الفجر ليكون نهارا مشابها للأمس، هل سألنا النهارات عن رأيها؟ عن حاجاتها لصخب الحياة المعتادة؟ وما دخلي أنا.
الناس هنا ودودن جدا طيبون للحد البعيد، الطيبة التي لا تنفك من بصيرة وحكمة تمرست في معرفة الناس وتصنيفهم، يمكننا القول بالدارجي “عينهم نجيضة”، اتأمل بصمت وأنا اتدثر الصمت رغم فصاحتي اتمعن في الرؤية والمتابعة، البيوت هناك من طين أخضر وحيشان وسيعة ممتدة جميع البيوت هنا تجد شجار الليمون والحناء والسدر والجوافة والرمان وأشجار المانجو والنخيل في كل البيت صنف أو إثنين، الشوارع خالية من الشجر على عكس الخرطوم هنا نادرا ما تصادف شجرة (نيم أو دقن الباشا)* في المساحات الخالية ينمو شجر السُمر والمسكيت، لا ننسى عشبة السنة مكة الذي تطرحها الأرض بسخاء لدرجة تعافه حتى الأغنام، الحياة هنا تختلف عن المدينة أن تعيش وسط أهلك واجدادك أمر مختلف فنحن متناثرون بين أحياء الخرطوم حيث تندر الزيارات العائلية بحجة الانشغال والمدارس و….ألخ، منذ مجئنا فارين من الحرب التف علينا أهل المنطقة بترحاب فياض لم نشعر أننا اغراب فكانوا الأهل والجيران والأصدقاء، كانوا ينادوننا من باب الدعابة بالدعامة** سرعان ما صارت الدعابة إلى مصدر قلق يتهددنا ونحن اللائي اتخذنها سانحة لترميم الذات ونفضها من سخام العلاقات الواهية – الحقيقة إن المرء يعيد اكتشاف نفسه عند المحن ولا يوجد ما هو أشتد محنة من الحرب، من أن تخرج تاركاً كل شيء ناجيا بنفسك تطاردك الآلام والذكريات أكثر من أي شيء مضى ويقتالك الاحتياج لمن الفتهم واصطفيتهم، تصلي جميع أوقاتك وتسأل الله بألحاح درويش* أن تقيف الحرب كي تعود، لا يهم كيف أو لماذا فقط هكذا تقيف رغبة في وضع حد لآلامنا وجرحاتنا النازفة.

دائرة الشك هنا باتت تتسع يوما بعد يوم، كونك غريب انت في محل أتهام ولو اعتكفت دهرا بالمسجد، أئمة المسجد أيضا ثبت أن لديهم جرائم فصحافتنا اوردت اخبارا عدة مرات، وبذلك تنتفي عنك صفة الصلاح وحسن الخلق.

تأخذك خطاك نحو الشارع ترتبك خطاك وكأنما احست بملاحقةِ أحدهم صوت داخلي يخطابك بصوت اقرب الى صوت الواعظين، يقول لقدماك على وين يا، لتقوم بحركة لا إرادية خلف دور، ها أنت مجددا تفقد حريتك أو تتخلى عنها، ثمة شيء ما يراقب كل خطواتك قائمة مشترياتك في البقالة، حسابك البنكي، مدة مكالماتك الهاتفية، عدد زوارك ونوعهم، يحدث كل هذا وأنت تخال أن ليس هناك أحد، للتفاجأ بأن نسوة الحي قد تناقلوا كل شيء عنك بعضهن يرجح كفة الشك بك وبعضهن يستنكر، في كل الأحوال تكون مصدر ثرثرة بالقرية فالجدران هنا لها أعين وآذان، بينما الأشواق تعبث بك وعيناك تنظر صوب الخرطوم وبداخلك تترنم حنيني إليك وليل الغربة اضناني.